وقفات مع حصار غزة

( أرجو من القارئ الكريم إتمام قراءة المقال قبل الحكم عليه )

بسم الله الرحمن الرحيم

لم يكن ما حدث في قطاع غزة من حصار جائر وقصف مستمر أمراً جديداً على السياسة الصهيونية، فإن الغاية عندهم تبرر الوسيلة تنظيراً وتطبيقاً.
وحصار غزة وإن كان مستمراً منذ زمن طويل، لكن الصهاينة قد ضاقوا ذرعاً بكل النجاحات التي حققتها حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، ووصولها إلى حكم الأراضي الفلسطينية، ومن ثم حاولوا إسقاط هذه الحكومة من الخارج والداخل، والتضييق عليها، وإيقاف تدفق البضائع والأموال والأدوية والنفط، بحصار مشدد، باتت فيه غزة تختنق شيئاً فشيئاً، فكان نسف أجزاء من السياج الحدودي الفاصل بين قطاع غزة و مصر من قبل بعض الفلسطينيين بمثابة طوق نجاة تمكن من خلاله الفلسطينيون من الدخول إلى مصر والحصول على الأطعمة والألبسة والعلاج إضافة إلى البنزين وغيره من المحروقات التي تمكنهم من صنع طعامهم، وتسيير الأجهزة الطبية التي تتوقف عليها حياة المرضى والمصابين من جراء القصف اليومي للطائرات الإسرائيلية.
دلائل ومنارات:
لقد أبانت هذه الأحداث الماضية مجموعة من الدلالات التي يجدر الوقوف عندها.. وها أنا أسوقها مرتبة كما يلي:
* أوضحت الأحداث أن أصحاب المبادئ الأقوياء لا يبالون بما يقوله العالم كله عنهم، بل يسيرون وفق ما يحقق مصالحهم الذاتية دون النظر فيما يتسبب فيه ذلك من أضرار على الآخرين، ولهذا نرى هؤلاء اليهود يخالفون كل الأعراف والمبادئ والمواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان.
* أوضحت الأحداث أن التنظير والتطبيق أمران مختلفان جداً، وأن المعايير المستخدمة في الأمور الدولية هي معايير غير عادلة بحال، فهانحن نرى إيران – على سبيل المثال - تطالب بحقوق الأقليات الشيعية في الخليج ولكنها بالمقابل تمنع بناء أي مسجد لأهل السنة في العاصمة طهران، برغم أن أعداد الإيرانيين من أهل السنة بالملايين، وهاهو (الغرب) الكافر الذي طالما تشدق بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وتغنى بهما في كل ناد، إلا أنه ومن خلال أقواله وأفعاله يضرب بهذه الحقوق عرض الحائط حين يكون الطرف المظلوم مسلماً، فهاهو يسكت عن الانتهاكات اليهودية في فلسطين، وعن الانتهاكات الروسية في الشيشان، وعن ألوان أخرى من الانتهاكات التي تمارسها الكثير من دول العالم تجاه رعاياها المسلمين.
* أوضحت الأحداث أن الآلة الإعلامية لها أكبر الأثر في تهييج الرأي العام وتشكل مواقفه، فاليهود وهم الجناة الظالمون يبدون لكثير من دول العالم وشعوبها وكأنهم أصحاب الحق، وأنهم يعيشون تحت التهديد المستمر من صواريخ القسام، وذلك لما يملكونه من ترسانة إعلامية ضخمة، ونفوذ واسع في دول الغرب جعل الناس يتحاشون الحديث عنهم أو نقدهم، ومن صنع ذلك فإنه عرضة للاتهام بالعداء للسامية والتلوث بالعنصرية، مما يدفع المتحدث للاعتذار لهم على الملأ.
* يجب أن لانخدع بما يطرحه العدو في وسائل إعلامه من أنه قد هُزم أمام حركة حماس أو أمام الفلسطينيين، سواء في حديثه عن قطاع غزة أو سواه، لأنه وإن اعتبرها هزيمة وخسارة، فإن ذلك ينطلق من طموحاتهم ومخططاتهم الكبيرة، فهم يطمحون لاستذلال جميع الفلسطينيين فإذا تمردت طائفة منهم مهما كانت صغيرة اعتبروا ذلك نوعاً من الهزيمة والخلل الذي يجب تداركه.
* يجب على المسلمين أن لايخدعهم بعض مايصرح به اليهود من تحقيق حماس أو المقاومة الفلسطينية لبعض النجاحات، فإن ذلك عند الانشغال به قد يدفع للفرح والاستبشار – وهما أمران مطلوبان – والغفلة عن منجزات العدو ونجاحاته التي طغت في كل الميادين، وقد يكون تلك التصريحات صورة من صور الخداع والحرب الإعلامية، والتي تهدف إلى إشعار المسلمين بالنصر، فيسكنوا ويناموا فلا يستيقظوا لمساعدة إخوانهم ومدافعة عدوهم، ومثل هذا ما يصدر عن الأمريكان في العراق و أفغانستان بين الفينة والأخرى، إذ أنها في غالب الأحيان تكون للمقارنة بين الطموح والواقع فحسب.
* أظهرت هذه الأحداث تمايزاً واضحا في الصفوف، وكشفا للمتاجرين بالقضية الفلسطينية، ولذا وقف هؤلاء المتاجرون في خندق الأعداء إما بصورة إيجابية أو سلبية، والنتيجة متقاربة، فمنهم من أعان العدو ومنهم من منع الصديق من إيصال الإعانة، فكلاهما في خندق واحد.
* أبانت هذه التحديات الكبيرة ضرورة الاجتماع والوحدة، وأن التفرق هو المناخ المناسب الذي يتحرك فيه العدو لكسب جولات جديدة في الصراع الدائر على كافة المستويات وفي شتى الميادين، وأنه لابد من التنازل والتطاوع بين المؤمنين والاجتماع ولو على المفضول طمعاً في تحقيق الوحدة.
* أوضحت الأحداث ضرورة إحياء مفهوم الولاء والبراء فالمؤمنون إخوة، وهم أولياء بعض، كما أن الكفار أولياء بعض في جميع الأزمة والأمكنة، قال تعالى ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض)
* دلت هذه الأحداث على نجاح حملة العداء فيما يسمى (مكافحة الإرهاب) فمع وضوح الظلم والعدوان الذي يمارس على أهالي غزة، إلا أن إخوانهم وقفوا شبه مشلولين، وكان الأمر لا يعنيهم خوفا من أن يصنفوا ضمن دائرة الإرهاب، مع أن ظلم العدو في هذه الحالة بين وواضح لكل ذي عينين.
* كانت ولازالت هذه الأحداث الصارخة فرصة لتحريك الأمة لصالح قضية فلسطين ولصالح الجهاد بشكل عام، وكشف أعداء الأمة من الأمريكيين على حقيقتهم الصليبية، وتنكبهم لشعاراتهم الداعية إلى إعطاء الإنسان حقوقه الأساسية، مقابل إرضاء حفنة من اليهود تعيث في الأرض الفساد.
* إن ما يجري في غزة امتحان للمؤمنين من أهل فلسطين وخارجها، وعلى كل أحد أن يري الله من نفسه خيرا، كل بحسبه، فكما أن الله ابتلى أهل فلسطين بمصاولة اليهود ومنازلتهم، فقد ابتلانا نحن في مناصرتهم والوقوف معهم والشعور بالجسد الواحد، فهل ننجح في هذا البلاء؟.
* كشفت الأحداث مدى تمسح إيران الصفوية الرافضية بالقضية الفلسطينية، فلم يظهر لإيران أي دور في هذه الأزمة الخانقة التي يمر بها أهالي غزة الصامدة.
وسوف أبعث هاهنا بعدد من الرسائل، آمل أن تصل إلى المعنيين بها، وأن ينفع الله بها، وأن تكون لبنة في مشروع نصرة إخواننا هناك :
الرسالة الأولى: لإخواننا المحاصرين في فلسطين وقطاع غزة:
1 - عليكم أن تتذكروا أن ما يصيبكم من مصائب الجوع والقتل والجرح ونقص الأموال والثمرات إنما هو ابتلاء من الله وسنة من سننه تعالى، وقد حصل ذلك لمن هو خير منكم، ولتتذكروا حصار المسلمين الأول في شعب بنو عامر، حيث حوصر سيد الأنام وأصحابه وآله، واشتد عليهم الحصار واستمرت المعاناة واشتدت وطأة الجوع على رسول الله وأصحابه حتى أكلوا ورق الشجر وأكلوا الميتة والجلود، وكانت وطأة الجوع أشد على الأطفال والرضع الذين لم يجدوا حتى حليب الأمهات ملاذاً، فتذكروا ذلك جيداً ليعينكم على الصبر والسلوان.
2 - راجعوا أنفسكم وصححوا منهجكم وعلاقتكم بربكم، فإن الله تعالى يقول ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) وهاهو الخليفة الراشد عمر بن الخطاب يقول لجيشه وهو يودعه : ( احذروا الذنوب والمعاصي فإنها أخوف عليكم من عدوكم).
3 – أحسنوا الظن بالله تعالى، وذلك مع الحرص على استكمال أسباب النصر والفرج، فقد وعد الله سبحانه وتعالى المؤمنين بالنصر والتمكين وحسن العاقبة ووعده لايخلف، يقول تعالى (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، إنهم لهم المنصورون، وإن جندنا لهم الغالبون) ويقول (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون)
4 – أروا الله من أنفسكم خيراً في التكافل فيما بينكم والرحمة والشفقة من بعضكم لبعض، وقد أشاد النبي صلى الله عليه وسلم بالأشعريين كما في البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري إذ يقول صلى الله عليه وسلم (إن الأشعريين إذا أرملوا (أي فني زادهم) في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموا بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم منى وأنا منهم) أفلا ترضون أن تكونوا ممن قال عنهم رسول الهدى ( فهم مني وأنا منهم ).

الرسالة الثانية : لأعضاء الحركات الجهادية في قطاع غزة:
1 – على الإخوة في حماس أن يشركوا جميع الصادقين من أبناء الشعب في إدارة المجتمع ويمنحوهم الفرصة للمشاركة في البناء بغض النظر عن انتمائهم الحزبي، وليترفعوا عن الجانب الحزبي الذي قد يطغى على بعض المتحمسين من أبناء حماس، كما يجب عليهم أن يحرصوا على أن تكون المكتسبات لصالح الشعب الفلسطيني والأمة الإسلامية من ورائه وليس لصالح الحركة فحسب، ويجب أن يخضع أفراد حركة حماس إلى كافة الأنظمة والقوانين العامة التي يخضع لها جميع أفراد الشعب الفلسطيني وأن لا يتميزوا عن غيرهم كما تفعل الأنظمة العربية الحزبية.
2- على الإخوة في الجهاد الإسلامي الفلسطيني أن يسعوا لإنجاح تجربة حماس لصالح الشعب الفلسطيني ولا يحملهم اختلاف الانتماء الحزبي إلى الركون للسلبية وترك حماس وحدها في مواجهة التحديات فضلا عن المشاركة في إفشالها، مما يضر بمصلحة الشعب الفلسطيني ويتسبب في دعم القوى العلمانية ومن ورائهم اليهود.
3- على قيادات الشعب الفلسطيني أن يقوموا بدراسة جادة للخطوة الجريئة التي تمت لكسر الحصار وذلك لدراسة كيفية المحافظة على تلك المكتسبات التي حصلت من غير أن ينتج عنها آثار سلبية أو أن تكون استدراجاً من العدو.
4- كشفت أحداث غزة الأخيرة عن موقف السلطة المخزي تجاه ما يحدث للمحاصرين في قطاع غزة، وتعرت السلطة الفلسطينية عن كل ما تستر به خيانتها وعمالتها لليهود، وآن للشعب الفلسطيني والمخلصين من منظمة التحرير أن ينفضوا أيديهم منها ويتبرؤوا من خياناتها فهذا هو الواجب الشرعي والوطني في آن واحد.
5- على الإخوة في (القاعدة) إن أرادوا العمل في فلسطين أن ينضموا إلى أحد الفصائل الفلسطينية ولا يبادروا إلى إنشاء عمل مستقل بهم، وذلك حتى لا تزداد الفرقة والتشرذم، وبخاصة مع الدعوات المتكررة التي أطلقها قادة القاعدة والتي تدعو فيها إلى الوحدة واجتماع الصف.

الرسالة الثالثة: للعلماء والدعاة:
إن عليكم أن تقوموا بدوركم في نصرة إخوانكم والوقوف معهم بكل ما تستطيعون من ألوان الدعم المالي والنفسي، وعليكم دعوة الأمة جمعاء للوقوف مع إخوانهم، وفضح حال الأعداء وتآمرهم على الأمة، ولتعيدوا لنا تاريخ علماء الأمة العظام الذين سجلوا مواقف مشرفة حفظها لهم التاريخ وارتفع قدرهم بها.
ومن البرامج العملية في هذا المجال مايلي:
1 - أن يقوم العلماء بتشكيل اللجان الشعبية لجمع التبرعات لصالح إخوانهم في فلسطين( مثل ماقام به الشيخ سفر الحوالي).
2 – أن يتواصل العلماء مع إخوانهم من العلماء والسياسيين في فلسطين ويثبتوهم ويناصحونهم، وأن يشاركوا في الدعم المعنوي للشعب الفلسطيني من خلال وسائل إعلامه المرئية والمسموعة بحيث يكون لهم حضور إعلامي مشجع.
3 – أن يتدخل العلماء لجمع كلمة الصداقين من أبناء الشعب لفلسطيني على اختلاف انتمائهم الحزبية بحيث يكون لهم رؤية وموقف موحد مما يجري على الأرض.
4 – أن يتداعى العلماء في العالم الإسلامية لدراسة الحالة الفلسطينية بكل أزماتها ومحاورها دراسة واقعية شرعية سياسية ويخلصوا إلى التوصيات التي تحقق مصلحة الأمة، ومن تلك المسائل المهمة : الموقف من السلطة بتصرفاتها الخيانية، الموقف من الاستمرار في المقاومة وصورها ومدى تحقيق ذلك للمصلحة الشرعية وانسجامه مع مقاصد الشريعة، مدى إمكانية تجييش عموم المسلمين للقتال في فلسطين.

الرسالة الرابعة: للإعلاميين والكتاب والخطباء:
إن عليكم أن تقوموا بمسؤولية الكلمة والبيان وأداء الأمانة في المنابر التي اعتليتموها، والمناصب الإعلامية التي تسنمتموها، وذلك بنقل معاناة إخوانكم للعالم كله، والدفاع عن حقوقهم، وكشف تجاوزات الأعداء وبيان عداواتهم وكذب شعاراتهم الزائفة التي يتنادون بها.

الرسالة الخامسة: إلى عموم المسلمين:
أيتها الشعوب الإسلامية: لقد استطاع إخوانكم في غزة كسر الحصار المضروب عليهم من قبل اليهود والمتواطئين معهم، فهل يمكنكم كسر الحصار عن أنفسكم؟، ذلك الحصار الذي يمنعكم من دعم إخوانكم والوقوف معهم، والاستجابة لنداءات العلماء بالدعم المالي لإخوانكم في فلطين، حتى وإن سخطت يهود والصليبية ومن ورائهم من أذنابهم في المنطقة.
إن كسر ذلك الحصار الواقع على الشعوب يحتاج إلى رأي شعبي عارم، وانطلاقة نحو التنفيذ، مثل ذلكم التواطؤ الذي حصل في كسر حصار غزة، ولن تكون تضحياتكم في هذه الخطوة بأكثر من تضحيات إخوانكم في فلسطين.
وعليكم الوقوف بشكل جاد وواضح وعملي مع إخوانكم هناك، فقد وقف عباد الصليب وحملة رايتهم مع إخوانهم اليهود في خندق واحد، ودعموهم عسكريا وماديا وسياسيا فهل تعجزون عن الوقوف مع إخوانكم بعيدا عن سلطات الأنظمة التي لها حساباتها الخاصة المختلفة عن حساباتكم ؟
إن الدعم المادي والدعاء الخالص (ومنه قنوت النوازل في الصلوات) والدعم الإعلامي بالمشاركة في البرامج الحوارية المباشرة، ورسائل الجوال، والرسائل عبر الفضائيات.. ذلك بعض ما تملكونه لدعم إخوانكم فهلا قمتم بذلك.
أعتقد أن الشعوب لم تقترب من الخطوط الحمراء التي وضعتها الأنظمة للتحرك في دعم القضية الفلسطينية بل إنه وفي بعض المواقف كانت بعض الأنظمة أكثر جراءة من الشعوب في الإعلان عن مواقفها تجاه الإخوة في فلسطين.
فاتقوا الله وقوموا بما تستطيعون في نصرة إخوانكم في فلسطين، واسعوا بكل إمكاناتكم لفك الحصار عنهم ودعمهم، وإعانتهم على قتال عدوهم، ونصرتهم بالكلمة الصادقة، والدعاء الخالص لهم.

وصلى الله على نبينا محمد
تم تحريره في الخامس من شهر صفر لعام 1429هـ

بين يدي المدونة

* نؤمن بمشروعية الجهاد، وضرورته، وحاجة الأمة إليه في هذا العصر وفي كل عصر، وأنه سبب لحفظ بيضتها وحماية مقدساتها. * نرى أن من عوامل نجاح الجهاد وتحقيقه لأهدافه : السعي في ترشيده وتسديد القائمين عليه، وأن النقد الهادف لصالح الجهاد وليس ضده. * نهدف إلى حماية المشروع الجهادي من التشويه، والذب عن أعراض القائمين عليه.