وقفات حول أحداث غزة


(أرجو من القارئ الكريم إتمام قراءة المقال قبل الحكم عليه)


كانت الحرب الغاشمة التي شنتها إسرائيل على إخواننا في قطاع غزة حرباً شرسة دموية، حاولت فيها إسرائيل أن تدك المقاومة الفلسطينية هناك، وأن تضعف من وجودها، بل وتزيلها من الخارطة السياسية والعسكرية.
لكن الله عز وجل رد كيدهم في نحورهم لم ينالوا خيراً، وانقلب السحر على الساحر، وأنفق العدو الإسرائيلي الملايين، ورمى بأطنان الذخائر، وهدم البيوت والمساجد والمستشفيات والمدارس، وقتل ما يزيد عن ألف وثلاثمائة مدني غالبهم من النساء والأطفال والشيوخ، لكنه لم يتمكن من القضاء على المقاومة، ولم يحقق أهدافه، ولم يتمكن من التأثير على نفوس الفلسطينيين بل زادهم إصراراً على سلوك درب المقاومة المسلحة، وجعلهم يشعرون بالاعتزاز لوجودها، والانتساب إليها، وكان من المهم الوقوف مع هذه الأحداث العظيمة التي وإن لم تتجاوز مدتها ثلاثة وعشرين يوماً، إلا أنها أحدثت من الآثار ما لم تحدثه سنوات طوال ماضية.
ولعلي أجمل الوقفات مع الأحداث فيما يلي :
1 – أن ما تحقق خلال هذا الحدث هو انتصار حقيقي برغم الخسائر المادية وعدد القتلى:
ويمكن فهم ذلك من وجوه عديدة ومنها :
o ثبات المقاومة على مبادئها وعدم تراجعها عنها.
o صمود المقاومة في وجه العدوان وتكبيد العدو خسائر لم يستطع معها الاستمرار في عدوانه، كما عجز عن اقتحام غزة برغم كثرة عدده وعتاده.
o عدم تحقق الأهداف التي أعلنها العدو في بداية العملية العسكرية.
o قلة الخسائر البشرية في صفوف كوادر المقاومة، وكانت جل الإصابات التي اقترفها العدو في صفوف الأبرياء العزل.
2 - كشفت الأحداث عن حقيقة "العملاء" و"الخونة" ، فكثيرون كانوا يزايدون على القضية الفلسطينية، ويزعمون نصرتها، فتبين مع هذه الأحداث وقوف عدد من هؤلاء الخونة في صف العدو، إذ كان بعضهم يحثه على البدء بالعملية ويطالبه بتسريعها، وبعضهم أبدى موافقته عليها وغض الطرف عنها، ومنهم من استغل الأحداث، وجعل منها فرصة للنيل من المقاومة وإلقاء التهم عليها، وتحميلها المسئولية، مع سكوت مطبق عن تجاوزات العدو وجرائمه.
3 – أبانت الأحداث حجم التجاوزات التي يرتكبها العدو وانتهاكاته الفاضحة لكل القوانين والأعراف الدولية، حيث استخدم الأسلحة المحرمة، واستهدف المدارس والمساجد والبيوت، وأوقع القتل المتعمد على الأطفال والنساء والمدنيين، مما كشف انحطاط العدو في الجانب الإنساني أمام العالم أجمع – بما في ذلك الكثيرين ممن يدافعون عنه من الإنجيليين الصهاينة وأذنابهم من منافقي هذه الأمة-.
كما أن الحدث أبان عن أهمية الإعلام وتأثيره القوي على قضايا الأمة، ودوره في الضغط على القرار العسكري والسياسي.
4 – كشفت الأحداث الغطاء عن الموقف الأمريكي المخزي تجاه العدوان على غزة، حيث وقفت الولايات المتحدة بشكل صريح ومخزي مع العدوان، فدعمته بكل ما تستطيع سياسياً وعسكريا وإعلامياً، مما أظهر بجلاء معنى المفاهيم الأمريكية لـ(حقوق الإنسان) و(المعاهدات الدولية) و(الشرعية الدولية)وغيرها من الشعارات الزائفة التي ترفعها أمريكا لتضلل بها الأمم والشعوب، وتستخدمها – فقط- كوسيلة ضغط على الجهات التي لاتسير في ركابها.
5 – أوضحت الأحداث حجم تعاطف الشعوب العربية والإسلامية مع إخوانهم في فلسطين، فقد كان التعاطف والتأثر مع الحدث قوياً وفعالا، ولم يسبق له مثيل في حجمه وقوته.
6 – أظهرت الأحداث وعي الشعوب، فقد باتت الشعوب مدركة لمواقف كثير من الحكام العرب و صمتهم المطبق تجاه ما يحدث من انتهاكات صارخة وعدوان ظالم على شعب مستضعف.
7 – أبانت الأحداث ضعفاً جلياً في أداء العلماء وبطئاً في تفاعلهم مع قضايا الأمة، وهو ما لا يتناسب مع أهميتهم في الأمة وعظيم المسئولية التي تحملوها، وهذا لا ينسينا بعض المنجزات والأدوار الإيجابية التي قام بها بعض أهل العلم في هذه النازلة، ومنها:
· البيانات الصريحة التي تضع النقاط على الحروف وتكشف حقيقة الأمور في أحداث غزة مما لم يسبق له مثيل فيما مضى، وهو أمر تحتاجه الأمة المغيبة عن الحقيقة كثيراً .
· "اتحاد العلماء" ودورهم في مناصحة الحكام وزيارتهم لبيان مسئوليتهم تجاه الأحداث مما لم يتعود عليه العلماء والحكام فيما مضى، وهي بداية جيدة لوضع الأمور في نصابها والتأكيد على أن ولاة الأمر في الإسلام هم (العلماء والحكام) وأنهم – جميعاً - الذين يجب أن يرد إليهم الأمر في قوله تعالى (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم).
8 – كانت هذه الأحداث "المرة الأولى" في تاريخ القضية الفلسطينية والتي يدخل فيها الإيمان ممثلا للفلسطينيين في مواجهة اليهود بحيث يتمحض الصراع العقدي بين الإيمان والكفر وتظهر فيه الراية واضحة جلية وتدوي صيحات التكبير مجلجلة على أرض المعركة، بعد أن كانت الرايات الوطنية والقومية هي السائدة فيما مضى.

وصايا للمجاهدين في أرض الرباط
إلى إخواننا الصامدين المرابطين في فلسطين.. لقد أثلجتم صدور المؤمنين بثباتكم وصمودكم في وجه العدوان الظالم الصهيوصليبي، وأثبتم للعالم أن سلاح الإيمان أقوى من كل سلاح وأن أهل الإيمان مهما قل عددهم وعتادهم ومهما تحالف عليهم من في أقطار الأرض فإنه لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، لأنهم اعتصموا بالله ولم يلتفتوا إلى سواه.
وقد أحرجتم بصمودكم كافة الجيوش العربية التي كانت ولازالت تتذرع بعجزها أمام قوة اليهود وإمكانياتهم الضخمة، و حققتم المعجزة في نظر تلك الجيوش، وهزمتم الجيش الذي لايقهر بإمكانياتكم المتواضعة، وكشفتم حقيقة القوة المزعومة لليهود ومدى جبن الجندي اليهودي الذي أخبر الله عنه.
لكنكم - مع هذه المنجزات الكبيرة- بحاجة إلى من ينصح لكم ويشارككم جهادكم وانتصاركم فأقول:
* عليكم الحذر من المخاطر التي تصيب "المنتصر" من العجب والافتتان بنشوة النصر ونسبة الفضل للنفس أو لدقة التخطيط وطبيعة القدرات، فما النصر إلا (من عند الله)، ولكم في رسول الله أسوة حسنة، فقد دخل صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح مطأطئ الرأس يكاد يضرب المغفر في رحله من تواضعه لله ونسبة الفضل إليه .
* أتت هذه الأحداث لتكون فرصة سانحة لترتيب المقاومة وتوحيد الصف والتنسيق بين الفصائل وتجاوز الخلافات والمصالح الحزبية لتحقيق المصلحة العليا للمسلمين ومقدساتهم .
* لابد من استشعار خطورة الابتلاء بالسراء، وأنه لا يقل خطراً عن الابتلاء بالضراء، وفي ذلك يقول الإمام أحمد رحمه الله : ابتلينا بالضراء فصبرنا وابتلينا بالسراء فلم نصبر !!
* لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين، وقد كشف الله لكم الأعداء في هذه الأحداث فاحذروا من معاودة الثقة فيهم وإحسان الظن بهم .
جزى الله الشدائد كل خير * عرفت بها صديقي من عدوي
* كشف الله بهذه الأحداث المخذلين من هذه الأمة، الذين شابهوا إخوانهم القائلين – كما ذكر الله عنهم – ( يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا )، فقد استمات الكثير من مرجئة العصر في منع القنوت للمسلمين المستضعفين في غزة، فلما لم يستطيعوا ذلك أصبح بعضهم يقنت ضد المسلمين ، وكان بعضهم يقول في دعائه ( اللهم عليك بمن تسبب فيما يقع للمسلمين في غزة)!، فهكذا كانت الصورة لديهم، اليهود قوم طيبون مسالمون، ولكن هناك من "الفلسطينيين" أو من "الإخوان المسلمين" من يستفزهم ويحرضهم على قصف غزة.
وطالما أظهروا للناس أن اليهود أقوياء وأنه لا قبل لأحد بهم، وأن من يقاومهم إنما يجر الويلات على المسلمين ، ولقد عاقبهم الله بأن مسخ عقيدة الولاء والبراء في قلوبهم حتى وقفوا مع اليهود في خندق واحد، ومعهم شرذمة من العلمانيين المتواطئين معهم ضد المجاهدين الصادقين، وصدق فيهم قول الله تعالى ( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم )، ولقد كانوا يشيدون بالحكام ويتولونهم، في الوقت الذي يعلنون في الحرب بلا هوادة على الدعاة والمجاهدين والمصلحين في الأمة، في تناقض لا يقع فيه إلا من طمس الله بصيرته، وألقاه في مهاوي الردى، فكان من بركات هذه الأحداث أن كشفت عن المنافقين من الفئتين (العلمانية الغربية) و (المرجئة البدعية ).
* تعاطفت الشعوب الإسلامية معكم أيها المجاهدون في غزة كما لم تتفاعل وتتعاطف مع أي حدث سبقه، وعليكم أن تعرفوا لهذه الشعوب قدرها، وخصوصاً من قبل أهل السنة الذين وقفوا معكم بكل ما يملكونه من دعم مادي ومعنوي.
وإنه لمن الغبن والظلم أن يتجه الساسة الممثلون للمجاهدين لإهداء منجزات النصر للرافضة الصفويين مهما كانت المبررات، ناسين أو متناسين أن الأمة لم تقف مع حزب الله الرافضي في لبنان هذه الوقفة للاختلاف العقائدي وفقدان الثقة بالمشروع الصفوي في مواجهة إسرائيل.

كانت تلك جملة من الوقفات التي أردت فيها تجلية جملة من الحقائق والدروس والوصايا، لعلها أن تحقق المراد منها، وأن يبارك الله في كل جهد مخلص لهذه الأمة.
نسأل الله تعالى أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويهدينا للسداد في القول والعمل.
وصلى الله على نبينا محمد

تم تحريره في 1 / 2/ 1430 هـ

والحمد لله رب العالمين ،،،

أعمال العنف في البلاد الإسلامية وعلاقتها بالجهاد

بسم الله الرحمن الرحيم

(أرجو من القارئ الكريم إتمام قراءة المقال قبل الحكم عليه)

لا يخالف أحد من المسلمين في فريضة الجهاد في سبيل الله، والذي هو ذروة سنام الإسلام وقد وردت به النصوص القطعية من الكتاب والسنة، كما عايشه النبي صلى الله عليه وسلم واقعاً في حياته.
لكن الخلاف يقع فيما يتضمنه مدلول كلمة (الجهاد) وما يدخل في مفهومه من أعمال، وإن من تلك الأعمال التي يجري حولها الخلاف اليوم، وتدور حولها الكثير من الإشكالات ما تقوم به بعض الجماعات من (أعمال العنف) في البلاد الإسلامية، والتي يعدونها نوعاً من أنواع الجهاد المشروع، ويستدلون لها، وينزلون عليها النصوص الواردة في فضل الجهاد وحكمه وما يتعلق بالقائم به من أحكام .
وسوف نتناول في هذا المقال رؤية شرعية لطبيعة هذه الأعمال وحكمها الشرعي من خلال الأدلة الشرعية، والمقاصد العامة للشريعة، والتأمل الدقيق في مجريات الواقع اليوم، لعلنا أن نكون بهذا قد أضفنا شيئاً مفيداً في هذا الموضوع الذي كثر الخلاف حوله.
وقبل الولوج إلى الموضوع الرئيس فإنني أود إيضاح ثلاث نقاط:
الأولى: لكي نحرر محل النزاع، فإن الحديث في هذا المقال سيكون عن (البلاد الإسلامية) ونعني بها: البلاد التي يغلب على شعوبها أنهم من أهل الإسلام بغض النظر عن الحكومات القائمة فيها واختلاف الناس حولها.
الثانية: سيكون الحديث منصباً ومركزاً على حكم هذه الأعمال، بغض النظر عن فاعليها والقائمين عليها.
الثالثة: ما سيتم عرضه في هذه المسألة ( أعمال العنف في البلاد الإسلامية ) يشمل جميع أعمال العنف سواء كانت تستهدف الأنظمة وجيوشها ومن يتبعها، أو كانت تستهدف الأجانب الكفار المتواجدين على أرضها.
وستكون هذه الرؤية مسطرة على هيئة نقاط فنقول مستعينين بالله :

= الرؤية الشرعية لهذه الأعمال =

من خلال البحث والمراجعة والمزيد من التأمل في النصوص الشرعية ودلالتها والهدي النبوي في الجهاد والتعامل، فقد تبين لي أن هذا الأعمال غير مشروعة، وذلك لعدد من الأدلة والبراهين، والتي يمكن إيجازها فيما يلي :

(1) منع الله من القتال خوفاً من إيقاع الضرر بالمسلمين.
(2) كثرة المفاسد المترتبة على تلك الأعمال.
(3) فشل جميع تجارب العنف في البلاد الإسلامية.

ومن الإجمال ننتقل إلى التفصيل :
الاستدلال الأول :

أن الله تعالى منع من قتال أهل مكة لوجود بعض المسلمين المستخفين بدينهم فقال الله عز وجل ( لولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطأوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً)
[1].
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره (كفار قريش هم الذين جحدوا توحيد الله, وصدوكم يوم "الحديبية" عن دخول المسجد الحرام, ومنعوا الهدي, وحبسوه أن يبلغ محل نحره, وهو الحرم. ولولا رجال مؤمنون مستضعفون ونساء مؤمنات بين أظهر هؤلاء الكافرين بـ "مكة", يكتمون إيمانهم خيفة على أنفسهم لم تعرفوهم، خشية أن تطؤوهم بجيشكم فتقتلوهم, فيصيبكم بذلك القتل: إثم وعيب وغرامة بغير علم، لكُنَّا سلطناكم عليهم ليدخل الله في رحمته من يشاء، فيمنُّ عليهم بالإيمان بعد الكفر).
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله (‏ولولا رجال مؤمنون) قال‏:‏ دفع الله عن المشركين يوم الحديبية بأناس من المؤمنين كانوا بين أظهرهم‏.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ( وقد يُدفع العذاب عن الكفار والفجار لئلا يصيب من بينهم من المؤمنين ممن لا يستحق العذاب)
[2].
فإذا كان هذا في قوم يخفون إسلامهم في مجتمع مشرك فكيف بالمجتمعات الإسلامية التي يغلب عليها أهل الإسلام ولا يمكن تحاشيهم قطعاً، والضرر واقع عليهم أكثر من وقوعه على العدو المستهدف.

الاستدلال الثاني :

أن لهذه الأعمال الكثير من المفاسد التي سيأتي ذكرها، وأكثر المتضررين منها : أهل تلك البلاد من المسلمين، حتى ولو كان المستهدف الأصلي بها (الكفار)، وبناء عليه فإن مصلحة الإضرار بالكفار لا تكاد تساوي شيئاً أمام المفاسد العظيمة التي تضرر بها أهل الإسلام.
ولم تحقّق تلك الأعمال الأهداف المتوخاة منها كما كان يتصوّرها منفّذوها ،الذين يريدون كسر أنف أمريكا وإذلالها ، وتغيير سياستها العوجاء في الشرق الأوسط، ولاشكّ أنّهم كانوا يهدفون إلى أهداف أخرى صحيحة .. لكنْ هل تحقّقت ؟ أم تحقّق عكسها ؟
إن ماسنذكره من مفاسد يوضح أن هذه الأعمال قد جرّت الحركة الجهادية إلى حرب ليست مستعدّة لها، وأضافت إلى همومها هموماً أخرى ، وإلى حصارها الذي تعيشه حصاراً أفظع منه وأشد ، وأضافت إلى الأسر المنكوبة المئات والمئات ..

ومن تلك المفاسد التي يشهد لها الواقع والتجارب الحاصلة ما يلي :

(1) حصول الاعتداء على الأنفس المعصومة:
وقد قال الله تعالى عنها : ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق )
[3]، وإن كان هذا في عموم الأنفس فإن الله تعالى قد خص أنفس المؤمنين بالمزيد من العناية فقال تعالى: ( ومن يقتل مؤمنا متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما)[4].
وقتل نفس واحدة بغير حق كقتل الناس جميعاً كما أن إحياءها كإحياء الناس جميعاً، قال تعالى : (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا) وفي البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم ( لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)
[5].
وليس للمرء عذر في كونه متأولاً في ذلك لأن الواجب هو الاحتياط في أمر الدماء وتعظيمها، استجابة للنصوص الشرعية، وفي قصة أسامة بن زيد رضي الله عنه حين لحق بأحد المشركين من جهينة فلما أدركه قال لا إله إلا الله ، فطعنه برمحه حتى قتله، فلما بلغ ذلك النبي ‏صلى الله عليه وسلم قاله له يا ‏أسامة ‏‏أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله قال قلت يا رسول الله إنما كان متعوذا قال فقال أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله قال فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم
[6]، فأسامة رضي الله عنه إنما قتله متأولاً ومع ذلك عاتبه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعذره بل قال في رواية (قال أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا).
فكيف يحق لمسلم مجاهد أن يستهين بأمر الدماء؟ وهل هم أولى بالعذر من أسامة رضي الله عنه؟

(2) اختلال الأمن وترويع المؤمنين :
فالأمن من ضروريات الحياة، فهو حاجة إنسانية ملحة ومطلب فطري لا تستقيم الحياة بدونه ولا يستغني عنه فرد ولا مجتمع، ولا يمكن أن يقوم أمر الدين والدنيا إلا بحصوله.
وقد امتن الله تعالى به على عباده في مواضع من القرآن الكريم كما في قوله تعالى ( فليعبدوا رب هذا البيت. الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف)
[7] وقوله تعالى ( أولم يروا أنا جعلنا لهم حرماً آمناً).
كما أن اختلال الأمن يوقع الاضطراب في حياة الناس وتتعطل مصالحهم، إضافة إلى ما في ذلك من ترويع للمسلمين، والذي جاءت النصوص الشرعية بالنهي عنه في الأمر اليسير كما في حديث النعمان بن بشير قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير، فخفق رجل على راحلته ـ أي نعس ـ فأخذ رجل سهمًا من كنانته فانتبه الرجل، ففزع، فقال رسول الله: (لا يحل لرجل أن يروع مسلمًا)
[8] فكيف بما يحصل من ترويع وإخافة جماعية للمسلمين واضطراب لحياتهم وتعطل لمعاشهم بسبب هذه الأعمال؟

(3) تشويه صورة الإسلام عامة وصورة الجهاد بشكل أخص:
فقد استغل الإعلام المعادي هذه الممارسات والأعمال، جاعلاً إياها (الصورة الذهنية) عن المسلمين، واعتبر هذا اللون من الأعمال في بلاد المسلمين هو (الجهاد) المذكور في القرآن والسنة، مما جعل تلك الأفعال والممارسات لوناً من ألوان الصد عن سبيل الله- وإن كانت تحت مسمى الجهاد- ، كما نتج عن ذلك تنفير المسلمين من الجهاد في سبيل الله لما رأوه من المفاسد التي لحقت بهم وببلادهم من جراء هذه الأعمال.

(4) تسليط الأعداء على البلاد الإسلامية وإعطائهم الذريعة لغزوها والتضييق عليها:
فقد أوجدت هذه الأعمال الذريعة والمبرر للعدو، ومكنته من أن يفرض المزيد من القيود والحدود على الدول الإسلامية وعلى رعاياها، كما أنها فتحت له الباب للتدخلات العسكرية المباشرة وغير المباشرة بحجة وجود الإرهابيين على أراضيها.

(5) تضرر الأعمال الدعوية والاحتسابية والإغاثية في البلاد الإسلامية وغير الإسلامية:
فقد تعرضت مراكز الدعوة الإسلامية في خارج البلاد الإسلامية إلى التضييق والاضطهاد تحت ذريعة محاربة الإرهاب.
كما حوصرت المؤسسات الخيرية وضيق عليها وأغلق عدد منها ومنعت من العمل، وشددت الرقابة على أموالها وتم تعقبها وتدقيقها، مما أفضى إلى تعطل الكثير من مشاريعها الخيرية من بناء للمساجد وكفالة للدعاة والمعاهد والمدارس، ورعاية للأيتام والأسر الفقيرة، وقد أعطى انحسار العمل الخيري الإسلامي الفرصة للنصارى والرافضة لملء الفراغ الذي تركته المؤسسات الخيرية الإسلامية.
أما الأنشطة الاحتسابية الفردية والجماعية فقد تم التضييق عليها، واستخدمت أعمال العنف ذريعة للربط بينها وبين الإرهاب.

(6) تضرر الساحات الجهادية المشروعة:
فمن آثار تلك الأعمال: (تشويه صورة الجهاد) وإضعاف حماس الناس له، وتقليل اهتمامهم بمناصرة تلك القضايا العادلة، والتضييق على حركة المجاهدين وتنقلاتهم، حتى أصبح كل مجاهد أو مناصر للجهاد مطلوباًً تحت مظلة مكافحة الإرهاب.
كما تسببت تلك الأعمال في التضييق على مصادر الدعم المالي للجهاد، وتعطيل مشاريع جمع الأموال لتلك الساحات، إذ قامت الحكومات بمنعها وتتبعها خوفاً من الضغوطات الدولية من جهة، وخشية من أن تصرف في دعم أعمال العنف داخل تلك البلدان من جهة أخرى، كما أحجم الناس من جراء ذلك عن دفع الأموال في هذا المجال خوفاً من تداعياتهم عليهم وعلى مجتمعهم.
ومن أشكال الضرر على الساحات الجهادية : انصراف عدد غير قليل من الشباب عن العمل في الساحات الجهادية المشروعة إلى العمل داخل البلاد الإسلامية، منخرطين أو مؤيدين أو متعاطفين أو حتى معارضين، مما أفقد الساحات الجهادية الكثير من الكوادر والطاقات الفاعلة التي كان بالإمكان توجيهها للجهاد الحقيقي لتحدث أعظم الأثر، وان يكون لها دور كبير في جهاد قوى الاحتلال وجيوشه .

(7) تطاول العلمانيين ودعاة التغريب على المشروع الإسلامي:
لقد استغل أعداء التيار الإسلامي (من المنافقين) هذه الأحداث، واعتبروها فرصة سانحة للنيل من الإسلام، ونسبة هذه الأعمال إليه، حتى أصبحوا يجهرون بعداوتهم للطرح الإسلامي ومنابذتهم للدعوات إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، على اعتبار أن هذه الممارسات جزء من مفهوم العنف.
كما طالبوا بتغيير المناهج ومحاصرة الدعوة واعتقال الدعاة دون مواربة، وقد وجدوا تجاوبا من قبل المسئولين في كثير من البلاد الإسلامية، ونجحت المساعي الرامية إلى تجفيف منابع الدعوة الإسلامية تحت ذريعة تجفيف منابع الإرهاب.

(8) إضعاف اقتصاديات البلدان الإسلامية:
وقد وقع الإضعاف حيناً باستهداف مواقع الثروة في تلك البلاد كالنفط أو الغاز أو نحوهما، كما وقع في أحيان أخرى من خلال إضعاف الثقة بالأمن مما تسبب في إحجام الشركات الكبرى عن الاستثمار في البلاد الإسلامية، إضافة إلى أن تلك الأعمال قد تسببت في إرهاق ميزانيات تلك الدول من خلال صرف الكثير من الأموال في مكافحتها وتتبعها والوقاية منها، مما عاد بالضرر على المسلمين من أهل تلك البلاد والذين ربما حرموا من ضروريات الحياة، وعانوا من سوء الخدمات والبنية التحتية بسبب انشغال الأنظمة بتلك الأعمال.

(9) كثرة المعتقلين وتضررهم المباشر:
فقد وقع ضرر بالغ وكبير على آلاف الأشخاص من جراء اعتقالهم، سواء لارتباطهم بتلك الأعمال أو الاشتباه بوجود صلة بينهم وبينها، إضافة إلى حصول الفتنة لبعضهم أثناء اعتقاله، إما بوقوعه في الغلو والتكفير أو بانحرافه عن الاستقامة حينما نزل به البلاء بسبب التدين أو الانتساب للجهاد.
كما تضرر أهالي أولئك الشباب من ورائهم، حتى لم يكد يسلم بيت من البيوت من نزول تلك المصيبة عليه، وقد أثكلت أمهات وأبنائهن لازالوا أحياء، وترملت نساء وأزواجهن لازالوا أحياء، ويتّم أولاد وآبائهم أحياء، كل ذلك وقع بسبب تلك الأعمال.

(10) إتلاف الأموال والممتلكات المعصومة:
فإنه يترتب على هذه الأعمال دائماً تدمير بعض الممتلكات لأقوام لم يرتكبوا جناية تبيح تدميرها وقد قال النبي صلى الله و عليه و سلم : ( إن دماءكم و أموالكم حرام عليكم ...) الحديث رواه مسلم، وقال ( كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه).

(11) الوقوع في قتل المرء لنفسه من غير يقين :
فقد قتل العشرات من الشباب في أعمال العنف وقد رموا بأنفسهم في مواضع التهلكة دون التحقق من مشروعية العمل ونتائجه، فكان إقدامهم في أمور مشتبهة، وتضحيتهم في مسائل يدور حولها الكثير من النزاع، وقد قال تعالى ( ولا تقتلوا أنفسكم إنه كان بكم رحيما).
وبرغم تلك المفاسد العظيمة فإن العجب لايكاد ينقطع من أقوام يهوّنون تلك التجاوزات، ويقللون من خطورتها، زاعمين بأن هؤلاء القوم مجتهدون، وأنهم أصحاب نيات صالحة.

الاستدلال الثالث:
فشل تلك التجارب في كافة البلاد الإسلامية، فالتقييم الموضوعي المتجرد لها ينبئك عن فشلها سواء كان المستهدف بها النظام الحاكم وأجهزته كما وقع في مصر وسوريا والجزائر، أو كان المستهدف بها (الكفار) في تلك البلاد الإسلامية كما وقع في أندونيسيا واليمن والسعودية.
وإذا لم تنجح هذه الأعمال في البلاد المكشوفة عقديا وسياسيا وأمنيا مثل (سوريا) النصيرية التي باعت الجولان والتي يبطش نظامها القمعي بالناس لأدنى شبهة فكيف يمكن أن تنجح فيما هو دون ذلك .

والتجربة السعودية فاشلة بكل المقاييس، ومنبوذة على كل المستويات، فعلى الجانب الشرعي لا تجد عالماً معتبراً ولا داعية معروفاً يقر تلك الأعمال، بل وقف أهل العلم في هذه المسألة موقفاً جماعياً مع اختلافهم في كثير من المسائل الاجتهادية، وقد تحمل القائمون بتلك الأعمال كثيراً من الدماء والأموال المعصومة، وعلى المستوى العسكري: خسر التنظيم معظم كوادره مابين سجين وقتيل وطريد، وعلى المستوى الاجتماعي والشعبي ظهر رفض الشارع العام لتلك الممارسات بشكل يشابه الإجماع.

والتجربة المصرية فشلت فشلا ذريعاً في كافة الجوانب، فعلى المستوى الشرعي: تراجع عن الفكرة قادتها المتحمسون لها والمنظرون لها، المستدلون عليها، ونقضوا تلك التأصيلات التي بنوا عليها أعمالهم، كما حصل في مراجعات الجماعة الإسلامية ومراجعات (د. فضل) من جماعة الجهاد، إضافة إلى الإخفاقات المتتابعة وحجم الخسائر البشرية في صفوف تلك الجماعات وفي عموم الناس المتضررين بتلك الأعمال.

وأما التجربة الجزائرية ففشلها أشهر من أن يذكر وقد أصبحت صفحة سوداء في تاريخ العمل الجهادي سواء على المستوى الفكري: حين بلغ الغلو أوجه بتكفير عموم المجتمع، أوعلى المستوى التطبيقي: باستباحة الدماء المعصومة والفتك بأصحابها وقتلهم شر قتله، حتى طال القتل الكثير من النساء والأطفال ممن لا يحل قتلهم حتى لو كانوا من المشركين.

رسالة أخوية خاصة
وفقاً لهذه الرؤية الشرعية بعدم مشروعية هذه الأعمال التي تتم في البلاد الإسلامية، فإنني أوجه هذه الرسائل الأخوية إلى إخواني وأحبابي من المتعاطفين مع هذه الأعمال والمتأثرين بها، أكتبها من قلب محب مشفق، منطلقاً فيها من قول النبي صلى الله عليه وسلم (لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه مايحب لنفسه)، راجياً أن يقرأها الإخوة الكرام الذين نذروا أنفسهم وخاطروا بحياتهم ابتغاء مرضات الله تعالى، فإنهم أولى الناس بالبحث عن مشروعية العمل الذي يضحون من أجله.

الرسالة الأولى :
ليعلم الإخوة الأفاضل أن كثيراً ممن يبدأ هذه الأعمال يعتقد أنه سيتخلص من الأخطاء التي وقع فيها الآخرون ممن سبقوه في هذا المجال، و يزعم أنه درس الموضوع من كل جوانبه، وأعد له الخطط المناسبة، بحيث لا يمكن أن يقع فيما وقع فيه غيره من الأخطاء القاتلة سواء منها ما كان متعلقاً بالفكر أو بالتطبيق، ولكن الدخول الفعلي في العمل والبداية الحقيقية بالتطبيق تنقل المرء من حال إلى حال، فمن التورع عن الدماء المعصومة إلى الولوغ فيها، ومن التحذير من حال الغلاة المكفرين بالعموم وباللوازم، إلى تشريع تلك الأعمال وتبريرها والتنظير لها، فتجد أن الأحداث والفتن تتمادى بهم حتى يقعوا في شر مما كانوا ينتقدونه على غيرهم .
وإليك جملة من الأمثلة التي تثبت صدق ما أقول:
* الجزائر: فالإخوة الذين كانوا يحذرون من أفكار الغلو والتكفير لأنهم اكتووا بنارها في ساحة بيشاور وسمعوا الكثير من ضلالاتها من جماعة المسلمين المصرية ( التكفير والهجرة)، تراهم حين بدأوا العمل في الجزائر قد تجارت بهم الأهواء حتى وقعوا في غلو أعظم مما كان عليه الغلاة في مصر، واستباحوا من الحرمات في الدماء والأموال والأعراض مالا يقره شرع ولا نظام سماوي أو أرضي.
* السعودية : فقد كان الإخوة الذين بدأوا أعمال العنف فيها يقولون ويصرحون بأنهم لا يستهدفون رجال الأمن وأنهم إنما يقصدون بعملهم قتل الأمريكيين فحسب، ولم يمض وقت قصير حتى تمادت بهم الأمور حتى باتوا يستهدفون رجال الأمن ويقصدونهم بالقتل، كما في تفجير مبنى المرور والطوارئ والداخلية، وهي أشياء كانوا ينكرونها ويتحاشون الوقوع فيها.
* مصر : فالجماعة الإسلامية في مصر بدأت بالاحتساب على المنكرات بالقوة كإحراق دور السينما وحانات الخمور، وكانت الجماعة لا ترى مشروعية قتال الحكومة، ولاقتل رجال الأمن، لكن الأحداث تتالت وانتهت بالمواجهة مع رجال الأمن، وتداعت بهم الأحداث حتى وصلت إلى أحداث مؤلمة ذهب ضحيتها العشرات من القتلى والمصابين من الجماعة ومن رجال الأمن ومن عموم الناس، إضافة إلى عشرات الآلاف من المعتقلين في ظروف احتجاز صعبة للغاية ولسنوات طويلة، بل حكم على بعضهم بالإعدام، ولعلهم حين بدأوا في تلك الخطوة لم يظنوا أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه .

الرسالة الثانية:
أن كثيراً ممن يقوم بهذه الأعمال لهم نوايا حسنة، ومقاصد حميدة، وليس لهم طموح دنيوي من جرائها، ولذا فإنهم يضحون بأنفسهم فداء لما يعتقدون أنه الحق، لكن صلاح النية لا يستلزم صلاح العمل، فكم من مريد للخير لم يدركه.
ولهذا السبب فقد يتأثر بهم بعض الناس لما يرونه من صلاح نياتهم ورغبتهم في الخير دون إدراك للانحراف الذي وقعوا فيه والذي لا يبرره صلاح النية وأعمال العبد الصالحة.
وانظر إلى تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من (الخوارج) مع ما كانوا عليه من العبادة الظاهرة التي يحقر الصحابة عبادتهم إذا نظروا إليها، ومع ذلك فقد ذمهم النبي صلى الله عليه وسلم وحذر من ضلالتهم ودعا إلى قتالهم ورغب فيه.
ولايهولنك في بعض هؤلاء أنك تعرفهم وتعرف صدقهم وسابقة جهادهم فإنه لا عصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم والحي لا تؤمن عليه الفتنة وإنما يعرف الرجال بالحق، ومتى ما استبان للمرء الحق لم يكن له أن يعدل عنه لأجل أحد من الناس.

الرسالة الثالثة :
أن هذه الأعمال معرضة للاختراق من قبل الأنظمة و الجهات المعادية، بحيث تصبح هذه الجماعات أداة تتلاعب بها جهات استخباراتية مختلفة، توظفها لتحقيق أهدافها وتصفية خصومها، وقد حصل أن استخدم بعض هؤلاء الشباب المتحمسين في صراعات إقليمية أو دولية أو محلية، كما استخدمت هذه الدماء الزكية في حملات انتخابية لتقوية طرف على آخر، وقد أشرت إلى هذه المسألة بالتفصيل في مقال سابق بعنوان (مخاطر الاختراق على العمل الجهادي).

الرسالة الرابعة:
أن من الخطأ أن تحسب هذه الأعمال التي أحسن أحوالها أن تكون اجتهادات مرجوحة على مفهوم (الجهاد في سبيل الله)، بل ومن الظلم أن يعتبرها البعض من أولى ما يوصف بالجهاد !! وقد يستدل عليها البعض بقول الله تعالى (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) مع أن المراد بالآية : الكفار الأصليين من يهود ونصارى وغيرهم ممن أجمعت الأمة على كفرهم، أما من ليس كذلك فالنظر فيها مسالة اجتهادية أو مرجوحة.

الرسالة الخامسة:
إن من أبرز الأخطاء في الموقف من دعاة العنف في البلاد الإسلامية أن يعتذر لهم بأن هذه المسألة مسألة اجتهادية، وأنهم فيها بين مجتهد مصيب مأجور، أو مخطئ معذور!، وهذا التبرير في غاية الخطورة إذ أن الاجتهاد له شروطه وضوابطه وحدوده، ولا يصح أن تستباح الحرمات وتسفك الدماء المعصومة تحت ذريعة الاجتهاد، ولا يمكن لكل أحد أن ينصب نفسه مفتياً في أمور الدماء، فالاجتهاد محتاج إلى تأهيل شرعي مكثف، وبخاصة في المسائل الكبيرة كمسائل الحكم بالكفر أواستباحة الدماء.
وإن هذا الاعتذار لهم يجعل من المستساغ لجميع طوائف الضلال والانحراف أن يعتذروا بهذا العذر ويتمسكوا به، فالخوارج مجتهدون فيما ذهبوا إليه!، وهم أكثر عبادة وأظهر طاعة من هؤلاء الشباب، والرافضة مجتهدون! فقد حملهم عظيم محبتهم لآل البيت إلى الوقوع فيما وقعوا فيه من غلو، والصوفية مجتهدون! فقد حملهم الحرص على العبادة والتنسك إلى مواقعة البدع، وهذا بطبيعة الحال مما لا يقول به أحد من المتعاطفين.
كما أن الاجتهاد الشرعي – في حقيقته - يعني بحث المسألة والتأمل في النصوص دون مقررات سابقة، وما يصنعه الكثير من أولئك إنما يكمن في البحث والتنقيب عما يسند فعلهم الذي فعلوه، ويدعم موقفهم الذي اتخذوه.

الرسالة السادسة:
يحتج بعض منتهجي العنف والمبررين لهم بجملة طالما كرروها (لسنا مسؤولين عن النتائج، ولكن علينا بذل الجهد، والقيام بالواجب الشرعيّ مهما كانت نتيجته) والحقيقة أن هذا القول غير صحيح على الإطلاق، وقد تسببت هذه المقولة في إيجاد اللبس على كثير من الشباب الذين لم يلحظ أنّ الإسلام يهتمّ بنتائج الأعمال كما يهتمّ بالأعمال نفسها، ولهذا نجد القرآن يقرر اعتبار النتائج في الأعمال حين أمر الله تعالى عباده ألا يسبّوا أصنام المشركين برغم مافي ذلك السب من المصلحة ، لأنّ نتيجتها سبّ الله تعالى (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ)
[9].

الرسالة السابعة:
لابد من التأمل الدقيق للأهداف والدوافع الحقيقية وراء العمل في البلاد الإسلامية، فليست القناعة التامة بمشروعية العمل هي الدافع دوماً، وإنما قد يكون السبب أحياناً كون العمل في تلك البلاد أسهل وأهون، أو كونها أقرب منالاً، وأحياناً لا يخرج الأمر عن مبدأ (الانتقام والثأر) من بعض الجهات الأمنية أو من الدولة برمتها، سواء كان ثأراً شخصياً بسبب ما تعرض له بعضهم من الأذى، أو ثأراً للأصحاب والقادة، كما أنه قد يكون في أحيان أخرى بسبب رؤية بعض المنكرات التي لم يمكن تغييرها، فيلجأ بعض الشباب إلى اتخاذ العنف سبيلاً.
وكل هذه الأسباب على خلاف المشروع، فإن للعمل الجهادي صوره المشروعة، وأخلاقياته التي جاء بها الإسلام، وطبقها رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.

الرسالة الثامنة :
أن بعض الإخوة قد يقتنع بعدم مشروعية أعمال العنف في البلاد الإسلامية، من خلال تأمله في الأدلة الشرعية وحقائق الواقع، ومجريات الأحداث، ومع ذلك يصر على مواصلة المسير بحجة أن طريق الرجعة مغلق أمامه وأنه قد تورط في الكثير من الأعمال التي تجعل النظام في بلده يحكم عليه بالسجن أو القتل، أو خوفاً من أن يتحدث عنه الرفاق السابقون بالذم والتقريع وأن يصفوه بالنكوص أو الانتكاس، أو لكون التهمة قد ثبتت عليه فيمنعه التورط من التراجع، وقد يكون إدراكه لخطورة مافعله وأنه في حسابات الدنيا إما مقتول أو مسجون يجعله يمتنع عن التراجع مع اتضاح السبيل، وهذا مسلك خطير، فإن عليه التفكير في العواقب الأخروية وتبعات هذا الرأي وتداعياته عليه وعلى الناس، وأن يتذكر أن مرضات الله تعالى هي الهدف، فليتحمل في سبيلها كل مايلاقيه من ذم واتهام، وليعلم أن من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس.
ولهذا أوصي إخواني المنخرطين في تلك الأعمال، والمتعاطفين معها، والداعمين لها بالحذر الشديد من هذا المسلك الخطير، وضرورة الرجوع إلى الحق، والتفكر في مآلات الأمور ونتائجها، والتحقق من الأدلة الشرعية وانطباقها، وليس عيباً أن يعود المرء عن رأي رآه، أو فعل قام به، فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، ولئن كان من قضى نحبه في هذا الطريق قد بدأ في عمله ظاناً تحقق بعض الأهداف الخيرة، إلا أن النتائج والواقع يثبتان أن الطريق كان خاطئاً، وأن الوجهة لم تكن صحيحة.
والتراجع عن الخطأ لايعني بالضرورة الانتقال إلى المعسكر الآخر الممجد للحكومات العربية والإسلامية، المتواطئ مع الأنظمة، ولايعني السكوت عن المنكرات، ولا التغاضي عن المخططات التي تستهدف المسلمين في دينهم، ولايعني ترك الدعوة والاحتساب والعمل لهذا الدين، ولايعني التخلي عن الجهاد الشرعي في ساحاته الحقيقية، فما نأمله هو ترشيد العمل الجهادي لا توقيفه، وإعادة توجيه السفينة نحو الطريق الصحيح، فذلك خير وأبقى.

نسأل الله تعالى أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويهدينا للسداد في القول والعمل.
وصلى الله على نبينا محمد

تم تحريره في 15 / 2/ 1430 هـ
والحمد لله رب العالمين ،،،
[1] سورة الفتح/25
[2] المجموع (11/113-114)
[3] سورة الإسراء ( الآية 33)
[4] سورة النساء ( الآية 93)
[5] أخرجه البخاري في صحيحه (الديات 6469)
[6] أخرجه البخاري في الصحيح (الديات 6478) ومسلم ( الإيمان 141)
[7] سورة قريش
[8] رواه الطبراني في المعجم الكبير، وروى أبو داود نحوه، وذكره الألباني في " صحيح الترغيب والترهيب " (2806(>
[9] سورة الأنعام (الآية108)

بين يدي المدونة

* نؤمن بمشروعية الجهاد، وضرورته، وحاجة الأمة إليه في هذا العصر وفي كل عصر، وأنه سبب لحفظ بيضتها وحماية مقدساتها. * نرى أن من عوامل نجاح الجهاد وتحقيقه لأهدافه : السعي في ترشيده وتسديد القائمين عليه، وأن النقد الهادف لصالح الجهاد وليس ضده. * نهدف إلى حماية المشروع الجهادي من التشويه، والذب عن أعراض القائمين عليه.