وقفات حول أحداث غزة


(أرجو من القارئ الكريم إتمام قراءة المقال قبل الحكم عليه)


كانت الحرب الغاشمة التي شنتها إسرائيل على إخواننا في قطاع غزة حرباً شرسة دموية، حاولت فيها إسرائيل أن تدك المقاومة الفلسطينية هناك، وأن تضعف من وجودها، بل وتزيلها من الخارطة السياسية والعسكرية.
لكن الله عز وجل رد كيدهم في نحورهم لم ينالوا خيراً، وانقلب السحر على الساحر، وأنفق العدو الإسرائيلي الملايين، ورمى بأطنان الذخائر، وهدم البيوت والمساجد والمستشفيات والمدارس، وقتل ما يزيد عن ألف وثلاثمائة مدني غالبهم من النساء والأطفال والشيوخ، لكنه لم يتمكن من القضاء على المقاومة، ولم يحقق أهدافه، ولم يتمكن من التأثير على نفوس الفلسطينيين بل زادهم إصراراً على سلوك درب المقاومة المسلحة، وجعلهم يشعرون بالاعتزاز لوجودها، والانتساب إليها، وكان من المهم الوقوف مع هذه الأحداث العظيمة التي وإن لم تتجاوز مدتها ثلاثة وعشرين يوماً، إلا أنها أحدثت من الآثار ما لم تحدثه سنوات طوال ماضية.
ولعلي أجمل الوقفات مع الأحداث فيما يلي :
1 – أن ما تحقق خلال هذا الحدث هو انتصار حقيقي برغم الخسائر المادية وعدد القتلى:
ويمكن فهم ذلك من وجوه عديدة ومنها :
o ثبات المقاومة على مبادئها وعدم تراجعها عنها.
o صمود المقاومة في وجه العدوان وتكبيد العدو خسائر لم يستطع معها الاستمرار في عدوانه، كما عجز عن اقتحام غزة برغم كثرة عدده وعتاده.
o عدم تحقق الأهداف التي أعلنها العدو في بداية العملية العسكرية.
o قلة الخسائر البشرية في صفوف كوادر المقاومة، وكانت جل الإصابات التي اقترفها العدو في صفوف الأبرياء العزل.
2 - كشفت الأحداث عن حقيقة "العملاء" و"الخونة" ، فكثيرون كانوا يزايدون على القضية الفلسطينية، ويزعمون نصرتها، فتبين مع هذه الأحداث وقوف عدد من هؤلاء الخونة في صف العدو، إذ كان بعضهم يحثه على البدء بالعملية ويطالبه بتسريعها، وبعضهم أبدى موافقته عليها وغض الطرف عنها، ومنهم من استغل الأحداث، وجعل منها فرصة للنيل من المقاومة وإلقاء التهم عليها، وتحميلها المسئولية، مع سكوت مطبق عن تجاوزات العدو وجرائمه.
3 – أبانت الأحداث حجم التجاوزات التي يرتكبها العدو وانتهاكاته الفاضحة لكل القوانين والأعراف الدولية، حيث استخدم الأسلحة المحرمة، واستهدف المدارس والمساجد والبيوت، وأوقع القتل المتعمد على الأطفال والنساء والمدنيين، مما كشف انحطاط العدو في الجانب الإنساني أمام العالم أجمع – بما في ذلك الكثيرين ممن يدافعون عنه من الإنجيليين الصهاينة وأذنابهم من منافقي هذه الأمة-.
كما أن الحدث أبان عن أهمية الإعلام وتأثيره القوي على قضايا الأمة، ودوره في الضغط على القرار العسكري والسياسي.
4 – كشفت الأحداث الغطاء عن الموقف الأمريكي المخزي تجاه العدوان على غزة، حيث وقفت الولايات المتحدة بشكل صريح ومخزي مع العدوان، فدعمته بكل ما تستطيع سياسياً وعسكريا وإعلامياً، مما أظهر بجلاء معنى المفاهيم الأمريكية لـ(حقوق الإنسان) و(المعاهدات الدولية) و(الشرعية الدولية)وغيرها من الشعارات الزائفة التي ترفعها أمريكا لتضلل بها الأمم والشعوب، وتستخدمها – فقط- كوسيلة ضغط على الجهات التي لاتسير في ركابها.
5 – أوضحت الأحداث حجم تعاطف الشعوب العربية والإسلامية مع إخوانهم في فلسطين، فقد كان التعاطف والتأثر مع الحدث قوياً وفعالا، ولم يسبق له مثيل في حجمه وقوته.
6 – أظهرت الأحداث وعي الشعوب، فقد باتت الشعوب مدركة لمواقف كثير من الحكام العرب و صمتهم المطبق تجاه ما يحدث من انتهاكات صارخة وعدوان ظالم على شعب مستضعف.
7 – أبانت الأحداث ضعفاً جلياً في أداء العلماء وبطئاً في تفاعلهم مع قضايا الأمة، وهو ما لا يتناسب مع أهميتهم في الأمة وعظيم المسئولية التي تحملوها، وهذا لا ينسينا بعض المنجزات والأدوار الإيجابية التي قام بها بعض أهل العلم في هذه النازلة، ومنها:
· البيانات الصريحة التي تضع النقاط على الحروف وتكشف حقيقة الأمور في أحداث غزة مما لم يسبق له مثيل فيما مضى، وهو أمر تحتاجه الأمة المغيبة عن الحقيقة كثيراً .
· "اتحاد العلماء" ودورهم في مناصحة الحكام وزيارتهم لبيان مسئوليتهم تجاه الأحداث مما لم يتعود عليه العلماء والحكام فيما مضى، وهي بداية جيدة لوضع الأمور في نصابها والتأكيد على أن ولاة الأمر في الإسلام هم (العلماء والحكام) وأنهم – جميعاً - الذين يجب أن يرد إليهم الأمر في قوله تعالى (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم).
8 – كانت هذه الأحداث "المرة الأولى" في تاريخ القضية الفلسطينية والتي يدخل فيها الإيمان ممثلا للفلسطينيين في مواجهة اليهود بحيث يتمحض الصراع العقدي بين الإيمان والكفر وتظهر فيه الراية واضحة جلية وتدوي صيحات التكبير مجلجلة على أرض المعركة، بعد أن كانت الرايات الوطنية والقومية هي السائدة فيما مضى.

وصايا للمجاهدين في أرض الرباط
إلى إخواننا الصامدين المرابطين في فلسطين.. لقد أثلجتم صدور المؤمنين بثباتكم وصمودكم في وجه العدوان الظالم الصهيوصليبي، وأثبتم للعالم أن سلاح الإيمان أقوى من كل سلاح وأن أهل الإيمان مهما قل عددهم وعتادهم ومهما تحالف عليهم من في أقطار الأرض فإنه لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، لأنهم اعتصموا بالله ولم يلتفتوا إلى سواه.
وقد أحرجتم بصمودكم كافة الجيوش العربية التي كانت ولازالت تتذرع بعجزها أمام قوة اليهود وإمكانياتهم الضخمة، و حققتم المعجزة في نظر تلك الجيوش، وهزمتم الجيش الذي لايقهر بإمكانياتكم المتواضعة، وكشفتم حقيقة القوة المزعومة لليهود ومدى جبن الجندي اليهودي الذي أخبر الله عنه.
لكنكم - مع هذه المنجزات الكبيرة- بحاجة إلى من ينصح لكم ويشارككم جهادكم وانتصاركم فأقول:
* عليكم الحذر من المخاطر التي تصيب "المنتصر" من العجب والافتتان بنشوة النصر ونسبة الفضل للنفس أو لدقة التخطيط وطبيعة القدرات، فما النصر إلا (من عند الله)، ولكم في رسول الله أسوة حسنة، فقد دخل صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح مطأطئ الرأس يكاد يضرب المغفر في رحله من تواضعه لله ونسبة الفضل إليه .
* أتت هذه الأحداث لتكون فرصة سانحة لترتيب المقاومة وتوحيد الصف والتنسيق بين الفصائل وتجاوز الخلافات والمصالح الحزبية لتحقيق المصلحة العليا للمسلمين ومقدساتهم .
* لابد من استشعار خطورة الابتلاء بالسراء، وأنه لا يقل خطراً عن الابتلاء بالضراء، وفي ذلك يقول الإمام أحمد رحمه الله : ابتلينا بالضراء فصبرنا وابتلينا بالسراء فلم نصبر !!
* لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين، وقد كشف الله لكم الأعداء في هذه الأحداث فاحذروا من معاودة الثقة فيهم وإحسان الظن بهم .
جزى الله الشدائد كل خير * عرفت بها صديقي من عدوي
* كشف الله بهذه الأحداث المخذلين من هذه الأمة، الذين شابهوا إخوانهم القائلين – كما ذكر الله عنهم – ( يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا )، فقد استمات الكثير من مرجئة العصر في منع القنوت للمسلمين المستضعفين في غزة، فلما لم يستطيعوا ذلك أصبح بعضهم يقنت ضد المسلمين ، وكان بعضهم يقول في دعائه ( اللهم عليك بمن تسبب فيما يقع للمسلمين في غزة)!، فهكذا كانت الصورة لديهم، اليهود قوم طيبون مسالمون، ولكن هناك من "الفلسطينيين" أو من "الإخوان المسلمين" من يستفزهم ويحرضهم على قصف غزة.
وطالما أظهروا للناس أن اليهود أقوياء وأنه لا قبل لأحد بهم، وأن من يقاومهم إنما يجر الويلات على المسلمين ، ولقد عاقبهم الله بأن مسخ عقيدة الولاء والبراء في قلوبهم حتى وقفوا مع اليهود في خندق واحد، ومعهم شرذمة من العلمانيين المتواطئين معهم ضد المجاهدين الصادقين، وصدق فيهم قول الله تعالى ( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم )، ولقد كانوا يشيدون بالحكام ويتولونهم، في الوقت الذي يعلنون في الحرب بلا هوادة على الدعاة والمجاهدين والمصلحين في الأمة، في تناقض لا يقع فيه إلا من طمس الله بصيرته، وألقاه في مهاوي الردى، فكان من بركات هذه الأحداث أن كشفت عن المنافقين من الفئتين (العلمانية الغربية) و (المرجئة البدعية ).
* تعاطفت الشعوب الإسلامية معكم أيها المجاهدون في غزة كما لم تتفاعل وتتعاطف مع أي حدث سبقه، وعليكم أن تعرفوا لهذه الشعوب قدرها، وخصوصاً من قبل أهل السنة الذين وقفوا معكم بكل ما يملكونه من دعم مادي ومعنوي.
وإنه لمن الغبن والظلم أن يتجه الساسة الممثلون للمجاهدين لإهداء منجزات النصر للرافضة الصفويين مهما كانت المبررات، ناسين أو متناسين أن الأمة لم تقف مع حزب الله الرافضي في لبنان هذه الوقفة للاختلاف العقائدي وفقدان الثقة بالمشروع الصفوي في مواجهة إسرائيل.

كانت تلك جملة من الوقفات التي أردت فيها تجلية جملة من الحقائق والدروس والوصايا، لعلها أن تحقق المراد منها، وأن يبارك الله في كل جهد مخلص لهذه الأمة.
نسأل الله تعالى أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويهدينا للسداد في القول والعمل.
وصلى الله على نبينا محمد

تم تحريره في 1 / 2/ 1430 هـ

والحمد لله رب العالمين ،،،

أعمال العنف في البلاد الإسلامية وعلاقتها بالجهاد

بسم الله الرحمن الرحيم

(أرجو من القارئ الكريم إتمام قراءة المقال قبل الحكم عليه)

لا يخالف أحد من المسلمين في فريضة الجهاد في سبيل الله، والذي هو ذروة سنام الإسلام وقد وردت به النصوص القطعية من الكتاب والسنة، كما عايشه النبي صلى الله عليه وسلم واقعاً في حياته.
لكن الخلاف يقع فيما يتضمنه مدلول كلمة (الجهاد) وما يدخل في مفهومه من أعمال، وإن من تلك الأعمال التي يجري حولها الخلاف اليوم، وتدور حولها الكثير من الإشكالات ما تقوم به بعض الجماعات من (أعمال العنف) في البلاد الإسلامية، والتي يعدونها نوعاً من أنواع الجهاد المشروع، ويستدلون لها، وينزلون عليها النصوص الواردة في فضل الجهاد وحكمه وما يتعلق بالقائم به من أحكام .
وسوف نتناول في هذا المقال رؤية شرعية لطبيعة هذه الأعمال وحكمها الشرعي من خلال الأدلة الشرعية، والمقاصد العامة للشريعة، والتأمل الدقيق في مجريات الواقع اليوم، لعلنا أن نكون بهذا قد أضفنا شيئاً مفيداً في هذا الموضوع الذي كثر الخلاف حوله.
وقبل الولوج إلى الموضوع الرئيس فإنني أود إيضاح ثلاث نقاط:
الأولى: لكي نحرر محل النزاع، فإن الحديث في هذا المقال سيكون عن (البلاد الإسلامية) ونعني بها: البلاد التي يغلب على شعوبها أنهم من أهل الإسلام بغض النظر عن الحكومات القائمة فيها واختلاف الناس حولها.
الثانية: سيكون الحديث منصباً ومركزاً على حكم هذه الأعمال، بغض النظر عن فاعليها والقائمين عليها.
الثالثة: ما سيتم عرضه في هذه المسألة ( أعمال العنف في البلاد الإسلامية ) يشمل جميع أعمال العنف سواء كانت تستهدف الأنظمة وجيوشها ومن يتبعها، أو كانت تستهدف الأجانب الكفار المتواجدين على أرضها.
وستكون هذه الرؤية مسطرة على هيئة نقاط فنقول مستعينين بالله :

= الرؤية الشرعية لهذه الأعمال =

من خلال البحث والمراجعة والمزيد من التأمل في النصوص الشرعية ودلالتها والهدي النبوي في الجهاد والتعامل، فقد تبين لي أن هذا الأعمال غير مشروعة، وذلك لعدد من الأدلة والبراهين، والتي يمكن إيجازها فيما يلي :

(1) منع الله من القتال خوفاً من إيقاع الضرر بالمسلمين.
(2) كثرة المفاسد المترتبة على تلك الأعمال.
(3) فشل جميع تجارب العنف في البلاد الإسلامية.

ومن الإجمال ننتقل إلى التفصيل :
الاستدلال الأول :

أن الله تعالى منع من قتال أهل مكة لوجود بعض المسلمين المستخفين بدينهم فقال الله عز وجل ( لولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطأوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً)
[1].
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره (كفار قريش هم الذين جحدوا توحيد الله, وصدوكم يوم "الحديبية" عن دخول المسجد الحرام, ومنعوا الهدي, وحبسوه أن يبلغ محل نحره, وهو الحرم. ولولا رجال مؤمنون مستضعفون ونساء مؤمنات بين أظهر هؤلاء الكافرين بـ "مكة", يكتمون إيمانهم خيفة على أنفسهم لم تعرفوهم، خشية أن تطؤوهم بجيشكم فتقتلوهم, فيصيبكم بذلك القتل: إثم وعيب وغرامة بغير علم، لكُنَّا سلطناكم عليهم ليدخل الله في رحمته من يشاء، فيمنُّ عليهم بالإيمان بعد الكفر).
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله (‏ولولا رجال مؤمنون) قال‏:‏ دفع الله عن المشركين يوم الحديبية بأناس من المؤمنين كانوا بين أظهرهم‏.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ( وقد يُدفع العذاب عن الكفار والفجار لئلا يصيب من بينهم من المؤمنين ممن لا يستحق العذاب)
[2].
فإذا كان هذا في قوم يخفون إسلامهم في مجتمع مشرك فكيف بالمجتمعات الإسلامية التي يغلب عليها أهل الإسلام ولا يمكن تحاشيهم قطعاً، والضرر واقع عليهم أكثر من وقوعه على العدو المستهدف.

الاستدلال الثاني :

أن لهذه الأعمال الكثير من المفاسد التي سيأتي ذكرها، وأكثر المتضررين منها : أهل تلك البلاد من المسلمين، حتى ولو كان المستهدف الأصلي بها (الكفار)، وبناء عليه فإن مصلحة الإضرار بالكفار لا تكاد تساوي شيئاً أمام المفاسد العظيمة التي تضرر بها أهل الإسلام.
ولم تحقّق تلك الأعمال الأهداف المتوخاة منها كما كان يتصوّرها منفّذوها ،الذين يريدون كسر أنف أمريكا وإذلالها ، وتغيير سياستها العوجاء في الشرق الأوسط، ولاشكّ أنّهم كانوا يهدفون إلى أهداف أخرى صحيحة .. لكنْ هل تحقّقت ؟ أم تحقّق عكسها ؟
إن ماسنذكره من مفاسد يوضح أن هذه الأعمال قد جرّت الحركة الجهادية إلى حرب ليست مستعدّة لها، وأضافت إلى همومها هموماً أخرى ، وإلى حصارها الذي تعيشه حصاراً أفظع منه وأشد ، وأضافت إلى الأسر المنكوبة المئات والمئات ..

ومن تلك المفاسد التي يشهد لها الواقع والتجارب الحاصلة ما يلي :

(1) حصول الاعتداء على الأنفس المعصومة:
وقد قال الله تعالى عنها : ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق )
[3]، وإن كان هذا في عموم الأنفس فإن الله تعالى قد خص أنفس المؤمنين بالمزيد من العناية فقال تعالى: ( ومن يقتل مؤمنا متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما)[4].
وقتل نفس واحدة بغير حق كقتل الناس جميعاً كما أن إحياءها كإحياء الناس جميعاً، قال تعالى : (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا) وفي البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم ( لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)
[5].
وليس للمرء عذر في كونه متأولاً في ذلك لأن الواجب هو الاحتياط في أمر الدماء وتعظيمها، استجابة للنصوص الشرعية، وفي قصة أسامة بن زيد رضي الله عنه حين لحق بأحد المشركين من جهينة فلما أدركه قال لا إله إلا الله ، فطعنه برمحه حتى قتله، فلما بلغ ذلك النبي ‏صلى الله عليه وسلم قاله له يا ‏أسامة ‏‏أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله قال قلت يا رسول الله إنما كان متعوذا قال فقال أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله قال فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم
[6]، فأسامة رضي الله عنه إنما قتله متأولاً ومع ذلك عاتبه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعذره بل قال في رواية (قال أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا).
فكيف يحق لمسلم مجاهد أن يستهين بأمر الدماء؟ وهل هم أولى بالعذر من أسامة رضي الله عنه؟

(2) اختلال الأمن وترويع المؤمنين :
فالأمن من ضروريات الحياة، فهو حاجة إنسانية ملحة ومطلب فطري لا تستقيم الحياة بدونه ولا يستغني عنه فرد ولا مجتمع، ولا يمكن أن يقوم أمر الدين والدنيا إلا بحصوله.
وقد امتن الله تعالى به على عباده في مواضع من القرآن الكريم كما في قوله تعالى ( فليعبدوا رب هذا البيت. الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف)
[7] وقوله تعالى ( أولم يروا أنا جعلنا لهم حرماً آمناً).
كما أن اختلال الأمن يوقع الاضطراب في حياة الناس وتتعطل مصالحهم، إضافة إلى ما في ذلك من ترويع للمسلمين، والذي جاءت النصوص الشرعية بالنهي عنه في الأمر اليسير كما في حديث النعمان بن بشير قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير، فخفق رجل على راحلته ـ أي نعس ـ فأخذ رجل سهمًا من كنانته فانتبه الرجل، ففزع، فقال رسول الله: (لا يحل لرجل أن يروع مسلمًا)
[8] فكيف بما يحصل من ترويع وإخافة جماعية للمسلمين واضطراب لحياتهم وتعطل لمعاشهم بسبب هذه الأعمال؟

(3) تشويه صورة الإسلام عامة وصورة الجهاد بشكل أخص:
فقد استغل الإعلام المعادي هذه الممارسات والأعمال، جاعلاً إياها (الصورة الذهنية) عن المسلمين، واعتبر هذا اللون من الأعمال في بلاد المسلمين هو (الجهاد) المذكور في القرآن والسنة، مما جعل تلك الأفعال والممارسات لوناً من ألوان الصد عن سبيل الله- وإن كانت تحت مسمى الجهاد- ، كما نتج عن ذلك تنفير المسلمين من الجهاد في سبيل الله لما رأوه من المفاسد التي لحقت بهم وببلادهم من جراء هذه الأعمال.

(4) تسليط الأعداء على البلاد الإسلامية وإعطائهم الذريعة لغزوها والتضييق عليها:
فقد أوجدت هذه الأعمال الذريعة والمبرر للعدو، ومكنته من أن يفرض المزيد من القيود والحدود على الدول الإسلامية وعلى رعاياها، كما أنها فتحت له الباب للتدخلات العسكرية المباشرة وغير المباشرة بحجة وجود الإرهابيين على أراضيها.

(5) تضرر الأعمال الدعوية والاحتسابية والإغاثية في البلاد الإسلامية وغير الإسلامية:
فقد تعرضت مراكز الدعوة الإسلامية في خارج البلاد الإسلامية إلى التضييق والاضطهاد تحت ذريعة محاربة الإرهاب.
كما حوصرت المؤسسات الخيرية وضيق عليها وأغلق عدد منها ومنعت من العمل، وشددت الرقابة على أموالها وتم تعقبها وتدقيقها، مما أفضى إلى تعطل الكثير من مشاريعها الخيرية من بناء للمساجد وكفالة للدعاة والمعاهد والمدارس، ورعاية للأيتام والأسر الفقيرة، وقد أعطى انحسار العمل الخيري الإسلامي الفرصة للنصارى والرافضة لملء الفراغ الذي تركته المؤسسات الخيرية الإسلامية.
أما الأنشطة الاحتسابية الفردية والجماعية فقد تم التضييق عليها، واستخدمت أعمال العنف ذريعة للربط بينها وبين الإرهاب.

(6) تضرر الساحات الجهادية المشروعة:
فمن آثار تلك الأعمال: (تشويه صورة الجهاد) وإضعاف حماس الناس له، وتقليل اهتمامهم بمناصرة تلك القضايا العادلة، والتضييق على حركة المجاهدين وتنقلاتهم، حتى أصبح كل مجاهد أو مناصر للجهاد مطلوباًً تحت مظلة مكافحة الإرهاب.
كما تسببت تلك الأعمال في التضييق على مصادر الدعم المالي للجهاد، وتعطيل مشاريع جمع الأموال لتلك الساحات، إذ قامت الحكومات بمنعها وتتبعها خوفاً من الضغوطات الدولية من جهة، وخشية من أن تصرف في دعم أعمال العنف داخل تلك البلدان من جهة أخرى، كما أحجم الناس من جراء ذلك عن دفع الأموال في هذا المجال خوفاً من تداعياتهم عليهم وعلى مجتمعهم.
ومن أشكال الضرر على الساحات الجهادية : انصراف عدد غير قليل من الشباب عن العمل في الساحات الجهادية المشروعة إلى العمل داخل البلاد الإسلامية، منخرطين أو مؤيدين أو متعاطفين أو حتى معارضين، مما أفقد الساحات الجهادية الكثير من الكوادر والطاقات الفاعلة التي كان بالإمكان توجيهها للجهاد الحقيقي لتحدث أعظم الأثر، وان يكون لها دور كبير في جهاد قوى الاحتلال وجيوشه .

(7) تطاول العلمانيين ودعاة التغريب على المشروع الإسلامي:
لقد استغل أعداء التيار الإسلامي (من المنافقين) هذه الأحداث، واعتبروها فرصة سانحة للنيل من الإسلام، ونسبة هذه الأعمال إليه، حتى أصبحوا يجهرون بعداوتهم للطرح الإسلامي ومنابذتهم للدعوات إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، على اعتبار أن هذه الممارسات جزء من مفهوم العنف.
كما طالبوا بتغيير المناهج ومحاصرة الدعوة واعتقال الدعاة دون مواربة، وقد وجدوا تجاوبا من قبل المسئولين في كثير من البلاد الإسلامية، ونجحت المساعي الرامية إلى تجفيف منابع الدعوة الإسلامية تحت ذريعة تجفيف منابع الإرهاب.

(8) إضعاف اقتصاديات البلدان الإسلامية:
وقد وقع الإضعاف حيناً باستهداف مواقع الثروة في تلك البلاد كالنفط أو الغاز أو نحوهما، كما وقع في أحيان أخرى من خلال إضعاف الثقة بالأمن مما تسبب في إحجام الشركات الكبرى عن الاستثمار في البلاد الإسلامية، إضافة إلى أن تلك الأعمال قد تسببت في إرهاق ميزانيات تلك الدول من خلال صرف الكثير من الأموال في مكافحتها وتتبعها والوقاية منها، مما عاد بالضرر على المسلمين من أهل تلك البلاد والذين ربما حرموا من ضروريات الحياة، وعانوا من سوء الخدمات والبنية التحتية بسبب انشغال الأنظمة بتلك الأعمال.

(9) كثرة المعتقلين وتضررهم المباشر:
فقد وقع ضرر بالغ وكبير على آلاف الأشخاص من جراء اعتقالهم، سواء لارتباطهم بتلك الأعمال أو الاشتباه بوجود صلة بينهم وبينها، إضافة إلى حصول الفتنة لبعضهم أثناء اعتقاله، إما بوقوعه في الغلو والتكفير أو بانحرافه عن الاستقامة حينما نزل به البلاء بسبب التدين أو الانتساب للجهاد.
كما تضرر أهالي أولئك الشباب من ورائهم، حتى لم يكد يسلم بيت من البيوت من نزول تلك المصيبة عليه، وقد أثكلت أمهات وأبنائهن لازالوا أحياء، وترملت نساء وأزواجهن لازالوا أحياء، ويتّم أولاد وآبائهم أحياء، كل ذلك وقع بسبب تلك الأعمال.

(10) إتلاف الأموال والممتلكات المعصومة:
فإنه يترتب على هذه الأعمال دائماً تدمير بعض الممتلكات لأقوام لم يرتكبوا جناية تبيح تدميرها وقد قال النبي صلى الله و عليه و سلم : ( إن دماءكم و أموالكم حرام عليكم ...) الحديث رواه مسلم، وقال ( كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه).

(11) الوقوع في قتل المرء لنفسه من غير يقين :
فقد قتل العشرات من الشباب في أعمال العنف وقد رموا بأنفسهم في مواضع التهلكة دون التحقق من مشروعية العمل ونتائجه، فكان إقدامهم في أمور مشتبهة، وتضحيتهم في مسائل يدور حولها الكثير من النزاع، وقد قال تعالى ( ولا تقتلوا أنفسكم إنه كان بكم رحيما).
وبرغم تلك المفاسد العظيمة فإن العجب لايكاد ينقطع من أقوام يهوّنون تلك التجاوزات، ويقللون من خطورتها، زاعمين بأن هؤلاء القوم مجتهدون، وأنهم أصحاب نيات صالحة.

الاستدلال الثالث:
فشل تلك التجارب في كافة البلاد الإسلامية، فالتقييم الموضوعي المتجرد لها ينبئك عن فشلها سواء كان المستهدف بها النظام الحاكم وأجهزته كما وقع في مصر وسوريا والجزائر، أو كان المستهدف بها (الكفار) في تلك البلاد الإسلامية كما وقع في أندونيسيا واليمن والسعودية.
وإذا لم تنجح هذه الأعمال في البلاد المكشوفة عقديا وسياسيا وأمنيا مثل (سوريا) النصيرية التي باعت الجولان والتي يبطش نظامها القمعي بالناس لأدنى شبهة فكيف يمكن أن تنجح فيما هو دون ذلك .

والتجربة السعودية فاشلة بكل المقاييس، ومنبوذة على كل المستويات، فعلى الجانب الشرعي لا تجد عالماً معتبراً ولا داعية معروفاً يقر تلك الأعمال، بل وقف أهل العلم في هذه المسألة موقفاً جماعياً مع اختلافهم في كثير من المسائل الاجتهادية، وقد تحمل القائمون بتلك الأعمال كثيراً من الدماء والأموال المعصومة، وعلى المستوى العسكري: خسر التنظيم معظم كوادره مابين سجين وقتيل وطريد، وعلى المستوى الاجتماعي والشعبي ظهر رفض الشارع العام لتلك الممارسات بشكل يشابه الإجماع.

والتجربة المصرية فشلت فشلا ذريعاً في كافة الجوانب، فعلى المستوى الشرعي: تراجع عن الفكرة قادتها المتحمسون لها والمنظرون لها، المستدلون عليها، ونقضوا تلك التأصيلات التي بنوا عليها أعمالهم، كما حصل في مراجعات الجماعة الإسلامية ومراجعات (د. فضل) من جماعة الجهاد، إضافة إلى الإخفاقات المتتابعة وحجم الخسائر البشرية في صفوف تلك الجماعات وفي عموم الناس المتضررين بتلك الأعمال.

وأما التجربة الجزائرية ففشلها أشهر من أن يذكر وقد أصبحت صفحة سوداء في تاريخ العمل الجهادي سواء على المستوى الفكري: حين بلغ الغلو أوجه بتكفير عموم المجتمع، أوعلى المستوى التطبيقي: باستباحة الدماء المعصومة والفتك بأصحابها وقتلهم شر قتله، حتى طال القتل الكثير من النساء والأطفال ممن لا يحل قتلهم حتى لو كانوا من المشركين.

رسالة أخوية خاصة
وفقاً لهذه الرؤية الشرعية بعدم مشروعية هذه الأعمال التي تتم في البلاد الإسلامية، فإنني أوجه هذه الرسائل الأخوية إلى إخواني وأحبابي من المتعاطفين مع هذه الأعمال والمتأثرين بها، أكتبها من قلب محب مشفق، منطلقاً فيها من قول النبي صلى الله عليه وسلم (لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه مايحب لنفسه)، راجياً أن يقرأها الإخوة الكرام الذين نذروا أنفسهم وخاطروا بحياتهم ابتغاء مرضات الله تعالى، فإنهم أولى الناس بالبحث عن مشروعية العمل الذي يضحون من أجله.

الرسالة الأولى :
ليعلم الإخوة الأفاضل أن كثيراً ممن يبدأ هذه الأعمال يعتقد أنه سيتخلص من الأخطاء التي وقع فيها الآخرون ممن سبقوه في هذا المجال، و يزعم أنه درس الموضوع من كل جوانبه، وأعد له الخطط المناسبة، بحيث لا يمكن أن يقع فيما وقع فيه غيره من الأخطاء القاتلة سواء منها ما كان متعلقاً بالفكر أو بالتطبيق، ولكن الدخول الفعلي في العمل والبداية الحقيقية بالتطبيق تنقل المرء من حال إلى حال، فمن التورع عن الدماء المعصومة إلى الولوغ فيها، ومن التحذير من حال الغلاة المكفرين بالعموم وباللوازم، إلى تشريع تلك الأعمال وتبريرها والتنظير لها، فتجد أن الأحداث والفتن تتمادى بهم حتى يقعوا في شر مما كانوا ينتقدونه على غيرهم .
وإليك جملة من الأمثلة التي تثبت صدق ما أقول:
* الجزائر: فالإخوة الذين كانوا يحذرون من أفكار الغلو والتكفير لأنهم اكتووا بنارها في ساحة بيشاور وسمعوا الكثير من ضلالاتها من جماعة المسلمين المصرية ( التكفير والهجرة)، تراهم حين بدأوا العمل في الجزائر قد تجارت بهم الأهواء حتى وقعوا في غلو أعظم مما كان عليه الغلاة في مصر، واستباحوا من الحرمات في الدماء والأموال والأعراض مالا يقره شرع ولا نظام سماوي أو أرضي.
* السعودية : فقد كان الإخوة الذين بدأوا أعمال العنف فيها يقولون ويصرحون بأنهم لا يستهدفون رجال الأمن وأنهم إنما يقصدون بعملهم قتل الأمريكيين فحسب، ولم يمض وقت قصير حتى تمادت بهم الأمور حتى باتوا يستهدفون رجال الأمن ويقصدونهم بالقتل، كما في تفجير مبنى المرور والطوارئ والداخلية، وهي أشياء كانوا ينكرونها ويتحاشون الوقوع فيها.
* مصر : فالجماعة الإسلامية في مصر بدأت بالاحتساب على المنكرات بالقوة كإحراق دور السينما وحانات الخمور، وكانت الجماعة لا ترى مشروعية قتال الحكومة، ولاقتل رجال الأمن، لكن الأحداث تتالت وانتهت بالمواجهة مع رجال الأمن، وتداعت بهم الأحداث حتى وصلت إلى أحداث مؤلمة ذهب ضحيتها العشرات من القتلى والمصابين من الجماعة ومن رجال الأمن ومن عموم الناس، إضافة إلى عشرات الآلاف من المعتقلين في ظروف احتجاز صعبة للغاية ولسنوات طويلة، بل حكم على بعضهم بالإعدام، ولعلهم حين بدأوا في تلك الخطوة لم يظنوا أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه .

الرسالة الثانية:
أن كثيراً ممن يقوم بهذه الأعمال لهم نوايا حسنة، ومقاصد حميدة، وليس لهم طموح دنيوي من جرائها، ولذا فإنهم يضحون بأنفسهم فداء لما يعتقدون أنه الحق، لكن صلاح النية لا يستلزم صلاح العمل، فكم من مريد للخير لم يدركه.
ولهذا السبب فقد يتأثر بهم بعض الناس لما يرونه من صلاح نياتهم ورغبتهم في الخير دون إدراك للانحراف الذي وقعوا فيه والذي لا يبرره صلاح النية وأعمال العبد الصالحة.
وانظر إلى تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من (الخوارج) مع ما كانوا عليه من العبادة الظاهرة التي يحقر الصحابة عبادتهم إذا نظروا إليها، ومع ذلك فقد ذمهم النبي صلى الله عليه وسلم وحذر من ضلالتهم ودعا إلى قتالهم ورغب فيه.
ولايهولنك في بعض هؤلاء أنك تعرفهم وتعرف صدقهم وسابقة جهادهم فإنه لا عصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم والحي لا تؤمن عليه الفتنة وإنما يعرف الرجال بالحق، ومتى ما استبان للمرء الحق لم يكن له أن يعدل عنه لأجل أحد من الناس.

الرسالة الثالثة :
أن هذه الأعمال معرضة للاختراق من قبل الأنظمة و الجهات المعادية، بحيث تصبح هذه الجماعات أداة تتلاعب بها جهات استخباراتية مختلفة، توظفها لتحقيق أهدافها وتصفية خصومها، وقد حصل أن استخدم بعض هؤلاء الشباب المتحمسين في صراعات إقليمية أو دولية أو محلية، كما استخدمت هذه الدماء الزكية في حملات انتخابية لتقوية طرف على آخر، وقد أشرت إلى هذه المسألة بالتفصيل في مقال سابق بعنوان (مخاطر الاختراق على العمل الجهادي).

الرسالة الرابعة:
أن من الخطأ أن تحسب هذه الأعمال التي أحسن أحوالها أن تكون اجتهادات مرجوحة على مفهوم (الجهاد في سبيل الله)، بل ومن الظلم أن يعتبرها البعض من أولى ما يوصف بالجهاد !! وقد يستدل عليها البعض بقول الله تعالى (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) مع أن المراد بالآية : الكفار الأصليين من يهود ونصارى وغيرهم ممن أجمعت الأمة على كفرهم، أما من ليس كذلك فالنظر فيها مسالة اجتهادية أو مرجوحة.

الرسالة الخامسة:
إن من أبرز الأخطاء في الموقف من دعاة العنف في البلاد الإسلامية أن يعتذر لهم بأن هذه المسألة مسألة اجتهادية، وأنهم فيها بين مجتهد مصيب مأجور، أو مخطئ معذور!، وهذا التبرير في غاية الخطورة إذ أن الاجتهاد له شروطه وضوابطه وحدوده، ولا يصح أن تستباح الحرمات وتسفك الدماء المعصومة تحت ذريعة الاجتهاد، ولا يمكن لكل أحد أن ينصب نفسه مفتياً في أمور الدماء، فالاجتهاد محتاج إلى تأهيل شرعي مكثف، وبخاصة في المسائل الكبيرة كمسائل الحكم بالكفر أواستباحة الدماء.
وإن هذا الاعتذار لهم يجعل من المستساغ لجميع طوائف الضلال والانحراف أن يعتذروا بهذا العذر ويتمسكوا به، فالخوارج مجتهدون فيما ذهبوا إليه!، وهم أكثر عبادة وأظهر طاعة من هؤلاء الشباب، والرافضة مجتهدون! فقد حملهم عظيم محبتهم لآل البيت إلى الوقوع فيما وقعوا فيه من غلو، والصوفية مجتهدون! فقد حملهم الحرص على العبادة والتنسك إلى مواقعة البدع، وهذا بطبيعة الحال مما لا يقول به أحد من المتعاطفين.
كما أن الاجتهاد الشرعي – في حقيقته - يعني بحث المسألة والتأمل في النصوص دون مقررات سابقة، وما يصنعه الكثير من أولئك إنما يكمن في البحث والتنقيب عما يسند فعلهم الذي فعلوه، ويدعم موقفهم الذي اتخذوه.

الرسالة السادسة:
يحتج بعض منتهجي العنف والمبررين لهم بجملة طالما كرروها (لسنا مسؤولين عن النتائج، ولكن علينا بذل الجهد، والقيام بالواجب الشرعيّ مهما كانت نتيجته) والحقيقة أن هذا القول غير صحيح على الإطلاق، وقد تسببت هذه المقولة في إيجاد اللبس على كثير من الشباب الذين لم يلحظ أنّ الإسلام يهتمّ بنتائج الأعمال كما يهتمّ بالأعمال نفسها، ولهذا نجد القرآن يقرر اعتبار النتائج في الأعمال حين أمر الله تعالى عباده ألا يسبّوا أصنام المشركين برغم مافي ذلك السب من المصلحة ، لأنّ نتيجتها سبّ الله تعالى (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ)
[9].

الرسالة السابعة:
لابد من التأمل الدقيق للأهداف والدوافع الحقيقية وراء العمل في البلاد الإسلامية، فليست القناعة التامة بمشروعية العمل هي الدافع دوماً، وإنما قد يكون السبب أحياناً كون العمل في تلك البلاد أسهل وأهون، أو كونها أقرب منالاً، وأحياناً لا يخرج الأمر عن مبدأ (الانتقام والثأر) من بعض الجهات الأمنية أو من الدولة برمتها، سواء كان ثأراً شخصياً بسبب ما تعرض له بعضهم من الأذى، أو ثأراً للأصحاب والقادة، كما أنه قد يكون في أحيان أخرى بسبب رؤية بعض المنكرات التي لم يمكن تغييرها، فيلجأ بعض الشباب إلى اتخاذ العنف سبيلاً.
وكل هذه الأسباب على خلاف المشروع، فإن للعمل الجهادي صوره المشروعة، وأخلاقياته التي جاء بها الإسلام، وطبقها رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.

الرسالة الثامنة :
أن بعض الإخوة قد يقتنع بعدم مشروعية أعمال العنف في البلاد الإسلامية، من خلال تأمله في الأدلة الشرعية وحقائق الواقع، ومجريات الأحداث، ومع ذلك يصر على مواصلة المسير بحجة أن طريق الرجعة مغلق أمامه وأنه قد تورط في الكثير من الأعمال التي تجعل النظام في بلده يحكم عليه بالسجن أو القتل، أو خوفاً من أن يتحدث عنه الرفاق السابقون بالذم والتقريع وأن يصفوه بالنكوص أو الانتكاس، أو لكون التهمة قد ثبتت عليه فيمنعه التورط من التراجع، وقد يكون إدراكه لخطورة مافعله وأنه في حسابات الدنيا إما مقتول أو مسجون يجعله يمتنع عن التراجع مع اتضاح السبيل، وهذا مسلك خطير، فإن عليه التفكير في العواقب الأخروية وتبعات هذا الرأي وتداعياته عليه وعلى الناس، وأن يتذكر أن مرضات الله تعالى هي الهدف، فليتحمل في سبيلها كل مايلاقيه من ذم واتهام، وليعلم أن من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس.
ولهذا أوصي إخواني المنخرطين في تلك الأعمال، والمتعاطفين معها، والداعمين لها بالحذر الشديد من هذا المسلك الخطير، وضرورة الرجوع إلى الحق، والتفكر في مآلات الأمور ونتائجها، والتحقق من الأدلة الشرعية وانطباقها، وليس عيباً أن يعود المرء عن رأي رآه، أو فعل قام به، فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، ولئن كان من قضى نحبه في هذا الطريق قد بدأ في عمله ظاناً تحقق بعض الأهداف الخيرة، إلا أن النتائج والواقع يثبتان أن الطريق كان خاطئاً، وأن الوجهة لم تكن صحيحة.
والتراجع عن الخطأ لايعني بالضرورة الانتقال إلى المعسكر الآخر الممجد للحكومات العربية والإسلامية، المتواطئ مع الأنظمة، ولايعني السكوت عن المنكرات، ولا التغاضي عن المخططات التي تستهدف المسلمين في دينهم، ولايعني ترك الدعوة والاحتساب والعمل لهذا الدين، ولايعني التخلي عن الجهاد الشرعي في ساحاته الحقيقية، فما نأمله هو ترشيد العمل الجهادي لا توقيفه، وإعادة توجيه السفينة نحو الطريق الصحيح، فذلك خير وأبقى.

نسأل الله تعالى أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويهدينا للسداد في القول والعمل.
وصلى الله على نبينا محمد

تم تحريره في 15 / 2/ 1430 هـ
والحمد لله رب العالمين ،،،
[1] سورة الفتح/25
[2] المجموع (11/113-114)
[3] سورة الإسراء ( الآية 33)
[4] سورة النساء ( الآية 93)
[5] أخرجه البخاري في صحيحه (الديات 6469)
[6] أخرجه البخاري في الصحيح (الديات 6478) ومسلم ( الإيمان 141)
[7] سورة قريش
[8] رواه الطبراني في المعجم الكبير، وروى أبو داود نحوه، وذكره الألباني في " صحيح الترغيب والترهيب " (2806(>
[9] سورة الأنعام (الآية108)

مخاطر الاختراق على "العمل الجهادي"

بسم الله الرحمن الرحيم

 

(أرجو من القارئ الكريم إتمام قراءة المقال قبل الحكم عليه) 

 

تنوعت وسائل الصراع وأدواته وجوانبه وميادينه في هذا العصر بما لم يسبق له مثيل من قبل، فمن الجوانب العسكرية والسياسية والإعلامية والاستخباراتية، إلى الجوانب الفكرية والثقافية والاجتماعية والأخلاقية، إذ باتت تلك الجوانب كلها ميادين للصراع مع العدو.

ونظراً لما يملكه العدو من إمكانيات ضخمة واستعدادات كبيرة للمعركة فقد عمل على كافة الجوانب وفي جميع الميادين.

ولعلنا هاهنا نتحدث بشكل تفصيلي عن أحد أبرز أدوات العدو في صراعه مع المجاهدين، ألا وهو:(الاختراق)، لما له من خطورة بالغة، فقد تلقت الأمة من جرائه نكبات موجعة، وأصابتها بسببه مصائب كبرى، ولم يسلم منه حتى الصف النبوي حيث أثار المنافقون الخلافات وسعوا في شق الصف المسلم، والأمثلة على هذا من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة.

لهذا كان من المهم الحديث عن الاختراق، وإيضاح جوانبه، وأهدافه، وذكر بعض النماذج الواقعية له، ثم نتبع ذلك بذكر عدد من التوصيات المقترحة لتجنبه.

 

أولاً : جوانب الاختراق:

عند إطلاق مصطلح (الاختراق) فإن المتبادر للذهن: الاختراق الاستخباراتي، والذي يعني (التجسس وجمع المعلومات من قبل العدو عن أحوال المجاهدين).

وبرغم خطورة هذا النوع من الاختراق إلا أنه ليس النوع الوحيد فإن هناك أنواعاً أخرى من الاختراق لا تقل خطورة عنه، مثل: الاختراق الفكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي.

فإن الاختراق الفكري يعني: التأثير على أفكار أبناء التيار الجهادي وصرفهم عن الفكر الصحيح إلى أفكار غالية منحرفة في الغالب أو أفكار مداهنة منهزمة محبطة، وسوف أتحدث فيما يلي عن نوعي الاختراق بشيء من التفصيل والتمثيل.

 

ثانياً :  أهداف الاختراق:

يمكن تلخيص أهداف الاختراق – وحديثنا هنا عن اختراق العمل الجهادي - فيما يلي:

1 – احتواء العمل الجهادي وإطفاء جذوته بتحويله إلى أداء سياسي باهت أو بإعطائه بعض المكاسب الحقيرة التي لا تحقق المقصود، لكنها تسهم في توقف الجهاد، ومن نماذج ذلك "الحركة الجهادية في طاجكستان" والتي انتهت بالعمل السياسي المجرد، واكتفت بتولي عدد من الحقائب الوزارية، وانحرفت عن هدفها الأصلي، ولم تحقق الأهداف الرئيسية التي قامت الحركة لأجل تحقيقها.

2 – القضاء على الجهاد، من خلال القضاء على المجاهدين وهزيمتهم في المعارك المختلفة هزيمة ساحقة، وتصفية قيادات الجهاد في أوج نشاطها وشدة الحاجة إليها، ويتم ذلك بطريقة تقود إلى الاتهامات المتبادلة داخل الصف الجهادي، كما حصل في اغتيال د. عبد الله عزام، واغتيال القائد خطاب رحمهما الله تعالى.

 

3 – توظيف التيار الجهادي وكوادره لتحقيق مقاصد العدو وأهدافه، ومثال ذلك :

* إدخالهم في الحرب ضد عدو تقليدي في الصراع بين القوى الكبرى كما وقع في الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي.

* إرباك البلاد الإسلامية والتشغيب عليها من خلال بعض الممارسات مما يدفع تلك البلاد للارتماء في أحضان العدو لطلب الحماية والنصرة منه.

* إيجاد الذريعة للتدخل الأجنبي من خلال بعض الأعمال التي يتم القيام بها تجاه بعض مصالح العدو في البلاد الإسلامية.

* تحويل مسار الجهاد إلى استهداف فئات أخرى غير العدو الأصلي، وتوسيع دائرة الصراع حتى يتكالب الناس على حرب الجهاد ومواجهته مما يؤدي إلى هزيمة المجاهدين وإطفاء جذوة الجهاد وإضعاف الثقة به كوسيلة وأسلوب من أساليب التغيير، وقد تحول العديد من مناصري الجهاد المنضمين إلى لوائه أحياناً إلى خصوم وأعداء واستعان بهم العدو لضربه، وكان ذلك من جراء التجاوزات المستمرة التي قام بها بعض المنتسبين إلى الجهاد.

* دفع المنضمين للتيار الجهادي إلى ضرب أهداف يصعب على العدو الصريح القيام بها مثل تصفية بعض الكوادر السياسية والشرعية في البلاد الإسلامية، وقد قامت بعض التيارات والحركات الجهادية بإهدار دماء عدد من قادة العمل الإسلامي، وقتل عدد من القيادات الجهادية والعلمية لأهل السنة، وإصدار البيانات الرسمية بهذا الشأن تحت ذريعة الاتهام بالخيانة والعمالة من غير بينة.

 

4 – استغلال بعض أفراد التيار الجهادي لتشويه صورة الجهاد والمجاهدين و نشر الإحباط على مستوى الأمة ككل، من خلال التشكيك في جدوى الجهاد، وإشعار عامة المسلمين بأن الجهاد بات يشكل خطراً عليهم قبل غيرهم، وذلك من خلال بعض الممارسات المنحرفة والتفجيرات العشوائية المنسوبة إلى الجهاد، والتي تضر بالمسلمين أكثر من غيرهم، ويتم تغطيتها إعلامياً من قبل العدو، كما تعطى زخماً كبيراً من أجل تنفير المسلمين من الجهاد وتشويه صورة المجاهدين، وقد وقع الكثير من ذلك في العمل المسلح في الجزائر، وكان بعضه من صنيع المقاتلين، وكثير منه من صنع الاستخبارات الجزائرية.

 

5 – صرف الجهاد عن هدفه وحرفه عن مساره إلى الغلو:

حيث يتسبب الغلو في العصف بالمجتمع الإسلامي برمته، وتأجيج الصراع بين قياداته الدعوية والجهادية والسياسية، كما يؤدي إلى التكفير والتشدد في الحكم على المخالفين مما يتسبب في حدوث الانشقاقات والتصفيات داخل التيار الجهادي، وقد وقع في بيشاور إبان الجهاد الأفغاني بعض الصور المشينة، ومن ذلك ماحصل من مدعي الخلافة الذين استباحوا دماء إخوانهم وأعراضهم تحت ذرائع شتى سببها الغلو، كما وجد صفوف التيار الجهادي من يرى أن الأصل في المجتمع الإسلامي الكفر، فلا يصلي في مساجد المسلمين ولايأكل من ذبائحهم، ورأى بعضهم التوقف في شأن عامة المسلمين والتبين من حالهم، كما وجد من يبادر إلى تكفير المسلم لأدنى تأويل.

6 - الالتفاف على العمل الجهادي من خلال صنع مقاومة عملية مدعومة من قبل الاحتلال حتى إذا برزت واستطاعت استقطاب الإعلام وكسب ثقة الناس، دعت إلى جمع المقاومة تحت قيادة واحدة، وهي قيادتهم بطبيعة الحال، ثم فاوضت العدو باسم المقاومة واستسلمت للعدو، وقد استطاعت الاستخبارات الألمانية – كمثال – إبان حكم "هتلر" لألمانيا تنفيذ أسلوب ذكي في النيل من جماعات المقاومة التي قاتلت جيش الاحتلال الألماني في العديد من الدول الأوربية . وتتمثل خلاصة ذلك الأسلوب في صناعة قادة مزيفين ومجموعات مقاومة تدار من قبل الاستخبارات الألمانية، وتسلط عليها أبواق الدعاية والإعلام حتى تشتهر . وقد يترتب على ذلك تحمل الجيش الألماني بعض الخسائر في سبيل شهرة تلك المجموعات المقاومة المصطنعة، وعندما تكبر تلك المجموعات ويشتهر قياداتها وأبطالها المصطنعين . تبدأ الاستخبارات في فرض وجودهم على المجموعات المقاومة الحقيقية , وتفتيت صفوفها أو اختراقها من قبل القيادات المصطنعة تحت دعاوى ضرورة توحيد الفصائل أو تنسيق أعمالها وتعاونها, كما تستخدمها في نزاعات داخلية بين فصائل المقاومة. (انظر : كتاب "شهادتي على الجهاد في الجزائر"، لأبي مصعب السوري)

 

 

ثالثاً : صور من حالات الاختراق ( نماذج من اختراق العمل الجهادي)

1 – التجربة السورية:

لم تستطع الأجهزة الأمنية السورية على الرغم من عنفها الشديد وبطشها وقتلها لكثير من مقاتلي "الطليعة الإسلامية" لم تستطع القضاء على هذا التنظيم، فسعت إلى اختراقه من الداخل، وقد حدث ذلك فعلاً على يد جاسوس المشهور بكنية (أبي عبدالله الجسري) ، والذي بسببه تم القبض على عدنان عقلة، وحوالي السبعين من أفضل الكوادر العسكرية في التنظيم، وقد استطاع اختراق الطليعة، والترقي في صفوفها القيادية بسرعة معتمداً على طيبة القائد عدنان عقلة، وحماسته للجهاد، وتشجيعه الشباب على القتال بصرف النظر عن اختلاف وجهات النظر حول هذا المنهج الذي يبدو متسرعاً في نظر الكثيرين.

وأضاف الجسري هذا لصفاته – ظاهرياً - صفة الورع والتقوى، فكان يكثر من قراءة القرآن، ويصلي والناس نيام، وكان يوقظ زملاءه الذين يسكنون معه لصلاة قيام الليل، وهذا السلوك كان من أهم الأسباب التي جعلت عدنان عقلة وآخرين غيره يطمئنون إليه، وكانت الثغرة الأساسية التي نفذ منها هي تهاون أعضاء الطليعة في انتقاء كوادرهم، وعدم التثبت من ماضي الرجال، وكثرة الكلام من غير داع لذلك، وقد بدأ الجسري اختراقه بعملية هروب من سورية إلى بغداد، ومن هناك انتقل إلى عمان، وخلال فترة قصيرة أصبح أحد قادة الطليعة، وأقنعهم أن عنده مجموعة من المجاهدين شمال سورية، وأظهر لهم الرسائل التي يتلقاها منهم، ويطلبون منه الاتصال بمسئولين من الطليعة ليحركوا العمليات القتالية التي ضعف شأنها في الفترة الأخيرة وخاصة بعد مجزرة حماة، وكان أبو عبد الله يعلم أن مثل هذا المطلب تنتظره الطليعة بفارغ الصبر، وسوف تتفاعل معه دون أي حذر لاسيما وأن صاحب هذا الاقتراح من أهل الحل والعقد عندهم.

وقد أقنع عدنان عقله مساعديه بهذا الاقتراح، وبدؤوا يستعدون لتنفيذه، وكان أبو عبد الله يرسل التقرير تلو التقرير إلى المخابرات، ويوهمهم بأنه يرسلها لأصحابه في شمال سورية، وبدأت خلايا الطليعة تدخل سوريا لتسقط الواحدة تلو الأخرى، إلى أن سقط عدنان عقلة نفسه بيد المخابرات السورية، وبعد ذلك غادر أبو عبدالله الجسري عمان إلى دمشق حيث استقبل بحفاوة بالغة، وتبين أنه ضابط في المخابرات السورية. (انظر مقال "الاختراق" لحسن الرشيدي)

 

2 – التجربة الجزائرية:

يعد النموذج الجزائري من أوضح أمثلة الاختراق وأبشعها، وذلك لأن الاختراق حدث باعتراف الجميع سواء الأطراف الأمنية والتي قامت بالاختراق، أو من المخترقين أنفسهم بعد أن انشقوا عن هذه الجماعات، ولأنه قد ترتب على هذا الاختراق أعمال وحشية وجرائم قتل ومذابح واغتصابات متكررة .

وفي شهادة لأحد قدامى المجاهدين المهتمين بالقضية الجزائرية وهو ( أبو مصعب السوري) يقول :

(قام أبو عبد الرحمن أمين وقياداته على اغتيال الشيخ محمد السعيد و المجاهد عبدالوهاب العمارة وغيرهما من المجاهدين المنتمين لجماعة الطلبة [ وهي : جماعة جهادية جزائرية ] بدعوى تحضيرهم للانقلاب على قيادته، وبدعوى الحفاظ على الهوية السلفية للجماعة بزعمهم، ثم أتبع أبوعبد الرحمن أمين تلك الجريمة بإصدار كتاب بعنوان (هداية رب العالمين ) على أنه (منهج الجماعة الإسلامية المسلحة ) وقد حمل الكتاب من فنون الجهل , وألوان التطرف والتكفير , وقواعد الإجرام وقتل الأبرياء مما جزم بالهوية المنحرفة الجديدة للجماعة في عهد أميرها هذا . ووضحت أبعاد الكارثة التي حلت بقيادة الجماعة المسلحة، ثم أتبع ذلك بتوجيه  مقاتليه إلى المجازر الجماعية في المدنيين في القرى المجاورة لهم بدعوى أنهم انخرطوا في المليشيات الحكومية , فكفرهم واستباح قتلهم وسبي نسائهم على أنهم مرتدين! واستغلت أجهزة الاستخبارات الجزائرية هذه الأجواء - التي تكشف فيما بعد أنها هي التي سعت إليها وأوجدتها -  ودست العملاء في قيادة الجماعة التي ربما كان (أمين) واحدا منهم، كما بدأت الكتائب والفصائل الجهادية في الداخل تنفض عن قيادة ( أمين ) , لتنغمس أكثر فأكثر في حمامات الدم المروعة المخزية.. ثم اشتعال القتال بين الجماعة وبعض تلك الفصائل المنفصلة عنها .. لقد كانت قيادة الجماعة المسلحة في الجزائر مجموعة من المنحرفين بذاتهم , وتولت الاستخبارات الجزائرية إكمال الانحراف وتوظيفه)، ثم توصل أبومصعب إلى نتيجة مفادها ( أن المخابرات الجزائرية قد وصلت إلى اختراق الجماعة المسلحة , وأن كثيرا من هذه البيانات تكتبها المخابرات الجزائرية , وأن أكثر المجازر تجري بترتيب المخابرات).

 

3 – التجربة الشيشانية:

حيث تم اكتشاف شبكة من الجواسيس المتغلغلة في أوساط المجاهدين، وبخاصة في مجموعة القائد "خطاب" حيث استطاع أكثر من ثلاثين فرداً من تترستان وبعض بلاد الروس أن يلتحقوا بمعسكرات التدريب والانضمام للمجاهدين حيث أظهروا رغبة معاونة المجاهدين ونقل الجهاد إلى بلادهم المحتلة من قبل الروس مما جعل المجاهدين يرحبون بهم ويمنحونهم الثقة الكاملة إضافة إلى ماكانوا يظهرونه من العبادة والصيام وقيام الليل مما سهل تغلغلهم في صفوف المجاهدين وتم كشفهم بتوفيق الله فاعترفوا – انظر مذكرات خطاب حين ذكر القصة-، إضافة إلى أن مقتل خطاب رحمه الله كان من خلال السم الذي وضعه أحد المقربين منه، وكذا مقتل العديد من القيادات في الشيشان إنما تم عن طريق الاختراق.

 

4 – التجربة المصرية :

لقيت جماعة التكفير والهجرة ( جماعة شكري مصطفى) رعاية وتشجيعاً من الحكومة المصرية، وهذا أمر تؤكده وقائع وكتابات بعض أعضاء الجماعة في ذلك الوقت مثل عبدالرحمن أبو الخير في كتابه (ذكرياتي مع جماعة المسلمين)، وتؤيده أيضاً وثيقة مكافحة الحركة الإسلامية التي كشفتها الصحافة عام 1979م .

ويعترف عبدالرحمن أبو الخير أن شكري صانع أكبر مأساة في تاريخ الحركة الإسلامية فقد بنى حركته على مبدأ فاسد وهو العمل من خلال خطة العدو.

وقد ثبت أن جماعته خطفت وقتلت الشيخ الدكتور الذهبي، تحت تأويلات باطلة، حيث أفتت جماعة شكري بكفر الشيخ الذهبي، ولما كان الشيخ الذهبي على خلاف مع الحكومة المصرية فقد اتفقت جماعة شكري مع الأمن (!) على تنفيذ عملية اغتيال الشيخ، ولما اعترض أبو الخير على شكري بعد أن بلغه ذلك الاتفاق قائلاً بلهجة عامية مصرية: الطريقة دي تجعلنا نستثمر ونستغل! قال له شكري: قبلنا أن نستثمر، قبلنا أن نستثمر، يعني ليس لدينا مانع أن ندخل أي عملية نكسب منها 54% ويكسب منها العدو 46%.

كما أن من وقائع الاختراق ما وقع لجماعة الجهاد المصرية أثناء وجودهم في السودان، حيث تم اختراق الجماعة من خلال أحد أبناء قادة الجماعة، مما ترتب عليه تنفيذ عملية قوية ضدها، والزج بالكثير الكثير من كوادرها في السجون ومعرفة خططهم قبل البدء في تنفيذها، وقد ذكر د.هاني السباعي في موقع المقريزي على شبكة الإنترنت أحداثها مفصلة.

ولعل المتأمل لعدد من لأمثلة المذكورة آنفاً يتبين له أن أهم خصائص هذه الاختراقات فيما يتعلق بالتنظيم نفسه مايلي:

·       · أن أغلب هذه الاختراقات تحدث في التنظيمات شديدة السرية.

·       · أن هذه الاختراقات تبلغ مرحلتها النهائية، وهذه التنظيمات في أوج قوتها.

·       · أن هذه الاختراقات تتم عندما يكون هناك تصادم دموي بين السلطة وهذه التنظيمات.

·       · أنه يسهل الاختراق عند ضعف المستوى القيادي من النواحي السياسية والشرعية.

·       · أن بعض التنظيمات قد تبرر شرعاً وواقعاً استخدام السلطات لها لتحقيق أهداف مشتركة.

 

رابعاً :  توصيات مقترحة لتجنب الاختراق ومعالجة آثاره حين يقع.

*  وضع دستور واضح للعمل ومنهجية مؤصلة على منهج أهل السنة بحيث لا تتغير المواقف والتوجهات تبعاً لأهواء القادة أو ميولهم الناتجة عن طبيعتهم الأصلية أو المتأثرة بسبب تأثير خارجي سواء كان ذلك التأثير بشكل مباشر أو غير مباشر.

*  وضع الضمانات الكافية للالتزام بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد والتعامل مع الخصوم، والتزام الوسطية وفقاً لمنهج أهل السنة والجماعة، ووضع الضوابط التي تحمي من الانحراف في هذا المجال.

*  محاصرة التسلل الفكري وتطويقه، وحماية العمل من المؤثرات التي تدفع باتجاه الغلو، حيث أن ذلك الانحراف الفكري قد يكون من خلال كوادر مهمة وذات وزن كبير في العمل، مع حاجة العمل إليها، فيجب هاهنا محاصرة هذا الفكر واستبعاده، حتى لو أدى ذلك إلى خسارة بعض الكوادر، لأن تلك العناصر يمكن أن تجر على الجماعة أو الحركة الجهادية الويلات من جراء انحرافها، وقد تقضي على المشروع الجهادي برمته.

*  إيجاد مرجعية شرعية قوية تملك صلاحيات واسعة وتتبوأ مواقع مهمة في اتخاذ القرار ورسم سياسات العمل في التنظيم أو التيار الجهادي.

*  أن لا يتولى القيادة إلا من عرف بتاريخ نظيف، واشتراط أن يكون محل ثقة عالية، وتجنب تولية من لهم تاريخ سيء حتى وإن استقاموا كما كان هدي عمر بن الخطاب مع المرتدين الذين رجعوا إلى الإسلام إذ قبل توبتهم وأمر أن لا يولوا على شيء، وإنما يكون من عموم جند المسلمين.

*  تجنب تولية حدثاء العهد بالهداية ومن لا يعرف تاريخهم.

*  بث الوعي السياسي والأمني والفكري داخل التيار الجهادي.

*  التركيز على البناء العلمي والتربوي للأفراد، وإحياء روح المراقبة والخوف من الله تعالى.

*  وضع منهج علمي يضبط التطبيقات الميدانية للعمل، ويحدد موقف التيار أو الجماعة من المسائل الرئيسية التي تواجهه في الميدان، بحيث يكون هذا المنهج هو المعتمد الذي يتم التعامل من خلاله، كما يتم محاسبة المخالفين والمتجاوزين له.

*  عدم قبول الانفراد في حال "المفاوضات" و"اللقاءات" مع العدو، وضرورة التركيز على الجانب الجماعي بحيث لا ينفرد شخص – مهما كان حجمه وموقعه من العمل – باتخاذ القرارات الفردية، إذ يمكن للعدو عند انفراده بالمفاوض أن يغويه أو يغريه أو يخدعه أو يفتنه، وأن تكون القرارات المصيرية مرهونة بموافقة عدد أكبر من أصوات مجالس الشورى مع التحري والاحتياط الشديدين.

*  تنمية المعرفة التقنية ووضع الكوادر المتخصصة في ذلك وحماية العمل تقنياً والحذر من اختراقات العدو في هذا الجانب.

*  التعامل بحذر شديد وسرية تامة مع أي حالات شك في وجود الاختراق، أو اكتشاف شيء منه، وذلك من أجل احتواء الاختراق ومعالجته.

*  أن يكون هناك حد أدنى من الصفات الشخصية والمهارات المتوفرة لدى الشخص قبل أن يولى على المهام القيادية في العمل، بحيث يكون أبعد عن الاستدراج أو الاختراق ولا يكتفى بمجرد الأقدمية وصلاح النية وكثرة العبادة مع أهمية هذه الجوانب، ولهذا كان من الواجب هنا استبعاد السذج والبسطاء عن أمثال هذه الموقع، كما أن من أبرز الصفات المهمة: الاستعداد للتضحية وأن لا يشح بنفسه، ولا يؤثر حظوظها على العمل.

*  دراسة الحالات التي تم فيها اختراق العمل الجهادي بشكل أكثر تفصيلاً ومعرفة كيفية نجاح العدو فيها حتى يمكن تدارك الخلل ومنعه من الوقوع مجدداً.

*  تجنب سياسة التجميع دون تمييز و استقبال من هب ودب في ميادين الجهاد دون معرفة سابقة أو تزكية معتبرة.

*  حصر المعلومات المهمة في أضيق نطاق، وبقدر الحاجة، بحيث لا يحصل الفرد على معلومة لا يحتاج إليها، والاقتصاد في ذلك حسب الإمكان.

*  الحذر من أن تكون الأحداث المفاجئة وردود الأفعال هي التي تقود العمل وتؤثر فيه وتغير استراتيجيته، بحيث يستغلها العدو لاستدراج التيار الجهادي ودفعه باتجاه معين.

*  معرفة أن الإعلام صورة من صور الحرب فيجب الحذر من سياسة العدو الإعلامية التي يحاول أن يصرف بها العمل عن هدفه بتضخيم بعض الأنشطة وتغطيتها إعلامياً أو إبراز بعض الشخصيات وتلميعها واعتبارها الخطر الداهم على العدو أو التشكيك في بعض الفصائل الجهادية وضرب بعضها ببعض، لإشاعة جو من عدم الثقة فيما بينها.

*  الحذر من الاستدراج السياسي والإغراء المالي من قبل العدو أو من قبل المتواطئين معه الذين قد يظهرون مخالفته وعدائه وهم في الحقيقة يعملون لصالحه.

 

وختاماً : فإنني أرجو أن أكون من خلال مقالي هذا قد ساهمت في ترشيد العمل الجهادي، ذلك أن الاختراق – بلا شك - أحد الآفات التي يتعرض لها الجهاد، وأحد مصادر الخطر التي تحيق به، والتي يوشك أن تذهب بكل المكاسب التي حققها التيار الجهادي، بل وربما أحدث الاختراق للعمل الجهادي آثاراً كارثية فتحول الجهاد بسبب ذلك الاختراق من كونه سبيلاً لنصرة الأمة وتوحيدها وحماية حوزتها، إلى كونه سبباً في المزيد من الاقتتال وسفك الدماء وتفريق الأمة وتسهيل وتبرير دخول العدو المحتل لأراضيها.

لذا كان جديراً بكل مجاهد في سبيل الله أن يجعل هذا الأمر نصب عينيه، وأن يلزم الحذر والاحتياط، وأن يحرص على تنقية النفس من ميولها وشهواتها، وأن يحذر كل الحذر من الجهود التي يبذلها العدو لاستدراج المجاهدين والإيقاع بهم من خلال بعض المنتسبين إليهم.

وعلى الجماعات الجهادية السعي بجد لحماية العمل من الاختراق، وتصفية الصفوف مما قد يشوبها.

 

نسأل الله تعالى أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويهدينا للسداد في القول والعمل.

وصلى الله على نبينا محمد

تم تحريره في 25 / 11/  1429 هـ

 

والحمد لله رب العالمين ،،،

 


خطاب.. وفقه العمل الجهادي

( أرجو من القارئ الكريم إتمام قراءة المقال قبل الحكم عليه )

بسم الله الرحمن الرحيم

القائد العربي الأفغاني الطاجيكي الشيشاني "خطاب" رمز من رموز الجهاد في العصر الحاضر، تقلب في جفون الموت على مدى أكثر من خمس عشرة سنة، وحقق انتصارات كبيرة في ميادين متعددة، وكسب شهرة إعلامية عالمية، وتميزت شخصيته بصفات وسمات قل أن توجد مجتمعة في شخصية واحدة.
اسمه الحقيقي سامر بن صالح بن عبد الله السويلم، ولد عام 1389 من الهجرة النبوية في مدينة عرعر شمال المملكة العربية السعودية، ومكث فيها حتى انتهى من الصف الرابع الابتدائي وعمره عشر سنوات، ثم انتقل مع والده -رحمه الله- إلى منطقة الثقبة بالقرب من مدينة الخبر.
أنهى دراسته الثانوية و كان ينوي السفر للخارج لإكمال الدراسة هناك، لكنه ذهب لأفغانستان في عام 1988م والتحق بركب الجهاد منذ ذلك التاريخ حتى استشهاده.
كان في أفغانستان قائدا لسرية المدفعية في جلال أباد ورتب عمليات كثيرة، وفي طاجيكستان كان في قيادة الجبهة مرتبطاً بالقائد عبد الله نوري مباشرة، ثم في الشيشان كان قائدا في الجبهة الوسطى مع شامل باسييف، إلى أن جاءت عمليات داغستان فكان القائد الميداني للجيش الإسلامي الذي شارك في المعركة.
وكان رحمه الله يتحدث بأربع لغات، فيتحدث اللغة العربية و اللغة الروسية والإنجليزية والبوشتو. واستشهد رحمه الله في أوائل شهر صفر من عام 1423هـ من الهجرة وله من العمر 33 عاماً.
ليس الذي يميزه شجاعته وحنكته العسكرية فحسب، ولا صبره وطول نفسه في مصاولة الأعداء، ولست هنا بصدد الحديث عن شخصيته فذاك يحتاج إلى صفحات مطولة، ولكنني أتناول في هذه المقالة جانباً مهماً من جوانب شخصيته الجهادية التي عز وجودها بين المجاهدين في هذا العصر مع كثرتهم وقوة شكيمتهم وشجاعتهم المفرطة.
هذا الجانب هو :
فقه "القائد خطاب" للعمل الجهادي

ويتجلى في رؤيته المتكاملة للعمل الجهادي وعنايته الخاصة بكل زاوية من زواياه، وليس الجهاد في نظره "التدريب العسكري فقط" ولا "تطوير الأسلحة والتفنن في العلميات العسكرية" و"الابتكار في أساليب القتال" لكنه كان إضافة إلى ذلك كله "الإعلام الجهادي" الذي لايقل عن الجانب العسكري.
كما أن للعلم الشرعي والجانب التربوي مكانته وموقعه اللائق في برنامج "القائد خطاب"، وللجانب الإغاثي والاجتماعي أهميته ورجاله التي تعمل جنباً إلى جنب مع المجالات الأخرى ولعل ذلك كله من أسباب نجاح العمل في الشيشان واجتماع كلمة المجاهدين هناك.

ولتفصيل ماسبق فإنني أشير إلى معالم مهمة في هذا الباب :

أ - فقه الجمع بين العلم والإعداد :
لقد بدأ خطاب عمله في الشيشان، تلك المنطقة البعيدة عن العلم الشرعي وعن فهم الإسلام وتطبيقه في حياة الفرد وسلوكه.
وكان يغلب على الشعب الشيشاني الجهل والبعد عن أخلاق الإسلام وعباداته إضافة إلى شراسة في الطبع وخشونة في المعاملة مما جعل عدداً منهم كوادر مهمة في عصابات المافيا، إذ كانت تلك الوظيفة أفضل الوظائف وأليقها بالرجل الشيشاني.
وكان منهم متدينين غلب عليهم التصوف المنحرف المغرق في الخرافة، إضافة إلى وجود قلة من السلفيين تحت قيادة الشيخ فتحي الشيشاني رحمه الله.
ولكن "القائد خطاب" بمنهجيته في الجهاد ومفهومه للجهاد الشامل استطاع – بفضل الله – تحويل رجال العصابات إلى قادة مجاهدين، وطلبة علم شرعيين، وقضاة ومفتين.
فكان من طريقته أن اعتنى بتهذيب أخلاق المتقدمين إلى معسكرات التدريب، وتعليمهم أمر دينهم، فاشترط على كل متقدم للتدريب أن يدخل دورة شرعية يتلقى خلالها أحكام الإسلام وأخلاقه.
فإذا تجاوز تلك الدورة انتقل إلى معسكر التدريب ليتعلم على السلاح وفنون القتال، وإذا أخفق في اجتياز الدورة الشرعية فيكون هذا الرجل غير مناسب ليكون مجاهداً في سبيل الله، وقد كان يحذ دوماً من أن يخرج مقاتلين قد يستثمرون ماتعلموه في إيذاء الناس والاعتداء عليهم.

وكان يقول – رحمه الله - : " المجاهدون من غير علم شرعي قطاع طرق "

ولم يكن في هذا الميدان وحده، بل كان قبله ومعه الشيخ فتحي الشيشاني، وهو طالب علم ومجاهد قديم سبق له الجهاد في أفغانستان.

كما كان معه (أبوعمر السيف) وهو عالم شرعي، سبق له المشاركة في الجهاد الأفغاني.

وكان من جوانب هذه المسألة احترامه للتخصص، فلا يسمح لأحد بالخوض في المسائل العلمية إلا أن يكون مؤهلاً لذلك، وقد جعل مرجعية علمية للمجاهدين تضبط مسائلهم وتحسم خلافاتهم، ذلك أن من المسائل التي أضرت ببعض ساحات الجهاد : مسائل التكفير والحكم على الآخرين، فكان "خطاب يمنع الحديث في هذه المسائل، ويطلب ممن لديه إشكال أو شبهة في هذا الشأن الرجوع إلى أهل العلم، والتزام قولهم، فلاتصبح هذه المسائل مجالاً للخوض في المعسكرات والجبهات.

بل كان "خطاب" نفسه يحترم التخصص، ولا يسمح لنفسه بالخوض في المسائل الشرعية لكونه الأمير بل كان يرجع فيها لأهل العلم ويلتزم قولهم ولايجازف باتخاذ المواقف قبل تحرير الرؤية الشرعية لها.

ب - فقه التعامل مع أهل البلاد :
قدم "خطاب" للشيشان وقد تقاسمتها الخلافات القبيلة والمناطقية والصراعات الفكرية والثارات العشائرية والحزبية.
كما بدأت القضية الشيشانية تحت قيادة ضباط سابقين في الجيش الروسي ممن لم يسبق لهم أن حظوا ببيئة إسلامية أو علم شرعي.
وكانت قيادة المقاومة مخترقة من قبل الاستخبارات الروسية في عدد من رجالاتها وعلى رأسهم في تلك المرحلة أحمد قادريوف (مفتي الشيشان) الذي كان يحاول دوماً إشعال الفتنة بين الشيشانيين أنفسهم، سلفيين وصوفيين، كما كان يحاول إشعال الفتنة كذلك بينهم وبين العرب المناصرين لهم من جهة أخرى، حيث كان يثير مسألة الوهابية في كل مناسبة.
لكن "القائد خطاب" تعامل مع الخارطة الشيشانية السكانية المختلفة المتشعبة مذهبا وفكرا وعشائراً بأسلوب الاحتواء وتجنب الصدام وتأليف القلوب وسد منافذ الفتنة.
وكان دائما يردد " نحن جئنا لنصرة الشيشان، فإذا كان بقاؤنا سيثير فتنة بيننا وبين الشيشانيين، أوبين الشيشانيين أنفسهم فإننا سنبادر للخروج ".
وقد ركز رحمه الله على احتواء القيادات المهمة أمثال شامل باساييف.
وقد حرص الأعداء على إثارة نقاط الخلاف إعلاميا فكانوا يحرصون على سؤاله في لقاءات إعلامية متعددة عن رأيه في مشايخ الصوفية، فكانت إجاباته تنم عن فقه عميق، مما يفوت الفرصة على الأعداء.
كما كان يتألف الناس بالمال والهدايا ويكسب رؤوس الناس بالتواصل معهم.
وكان للعمل الإغاثي والاجتماعي تأثير كبير في إطفاء الكثير من الفتن، وكسب عموم الشعب.
يقول "القائد خطاب": (كنا بعيدين عن محاور النقاش و بعيدين عن أن يجرنا الناس إلى نقاشات معينة.و ضعنا لنا منهجا و طريقا معينا في مجال النصرة و الدعوة و الحمد لله و و الله لقد كان لدينا الطلاب بالمئات و لو كان عندنا إمكانية لفتحنا أكثر من معهد أو دار لتحفيظ القرآن و كانت المشكلة لدينا في الإمكانيات و لم تكن هناك أي مشكلة مع الناس...كانت لنا علاقات طيبة وواسعة مع فئات من شعوب القوقاز و أصبحنا معه على ارتباط أكثر مما عليه بعض القادة الميدانيين الآخرين من الشيشان و أصبحنا نعرف طبائع الناس و كيف يفكرون و مع من نتعامل و كيف نعمل والحمد لله).

ج - في فقه التعامل مع الخلاف واحتواء آثاره :
لم تكن الساحة الشيشانية خالية من الفصائل المختلفة المتباينة في الفكر والانتماء، وكانت عوامل الفتنة وتأجيج الصراع مهيأة وحالة الانفجار متوقعة.
لكن تعامل المجاهدين مع هذا النوع من الخلاف وعلى رأسهم الأمير "خطاب" والعالم الشرعي أبوعمر السيف نجح في الحفاظ على الحد الأدنى من العلاقة التي تمنع الصراع، وتحتوي المجموعات المختلفة برباط من الاحترام المتبادل وحفظ الحقوق، وقد توّج ذلك باجتماع مجلس شورى المجاهدين الذي ضم جميع الفصائل المعتبرة في الشيشان -تقريبا- تحت قيادة واحدة.
ويمكن تفصيل هذه في ذكر بعض الصور والأحداث :
* لما توقفت الحرب الشيشانية عام 1994م باتفاقية مع الروس، حظي من خلالها المجاهدون بحكم دولة الشيشان في الوقت الذي قتل فيه جوهر دودايف وتولى الرئاسة بعده سليم خان، تحرك الشيخ أبوعمر لإنشاء المحاكم لشرعية وحرس الشريعة لإقامة الشريعة الإسلامية على أرض الشيشان المحررة، بحيث يقوم أولئك الحرس بتطبيق الشريعة والعمل الاحتسابي على المنكرات، في ذلك الوقت كان القائد "خطاب" غير مقتنع بهذه الخطوة، وكان يرى أن الشعب الشيشاني غير مهيأ لهذه المرحلة.
ومع كونه الأمير والقائد العسكري، إلا أنه تعامل مع الأمر الواقع وتواصل مع الشيخ أبي عمر وإخوانه بالمناصحة والرأي دون مناوئة للرأي المخالف فضلا عن الهجوم عليه أو على القائلين به إعلاميا أو عسكرياً، بل كان يدافع عنهم ضد من يستهدفهم بالسب أو الخصومة أو القتال.
* كان مسخادوف هو الرئيس المنتخب خلفاً لسليم خان، وكان عدد من قادة المجاهدين - ومنهم القائد خطاب والشيخ أبوعمر - يتحفظون على مسخادوف ومنهجه في إدارة البلاد، كما كانوا يشكون في ولائه، ويخافون من مواقفه. لكنهم برغم ذلك لم يعلنوا الحرب عليه وتعاملوا معه برفق وحكمة ومداراة، حتى كسبوا ولائه وصار معهم في خندق واحد يجاهد معهم ويتنقل في الغابات حتى قتل نسال الله أن يتقبله في الشهداء.
وكان يمكن أن يكون الخلاف معه سبباً للاقتتال بين فصائل المجاهدين بحيث يفني بعضهم بعضا.
* كان حمزة قلايو أحد القيادات المهمة، وكان بعيداً عن المجاهدين ومستقلا في عمله، وله موقف من "شامل باساييف" وبعض القيادات الأخرى..فكانت طريقة المجاهدين هي: تقريبه ومساعدته حتى لا يذهب بعيداً، وقد وعدوه بالدعم إذا انضم إلى مجلس شورى المجاهدين ووحد العلميات مع إخوانه، وانضم إليه أحد الأنصار "سيف الإسلام"ليوجه مجموعته ويؤثر في القائد "حمزة" فكان له ما أراد، وتحولت مجموعة "حمزة" إلى فصيل من أفضل الفصائل المجاهدة.

د - التركيز على الجانب الإعلامي ومعرفة أهميته:
أدرك "القائد خطاب" بمفهومه الشامل للجهاد ضرورة الجانب الإعلامي وأهميته في الصراع وتوضيح موقف المجاهدين من عدوهم، وماوقع على الشعب الشيشاني من الظلم والعدوان من قبل الروس، ومخاطبة الشعب الروسي ليقف ضد قيادته الظالمة، وقد كانت جمعي أمهات قتلى الروس في الشيشان من المؤسسات الضاغطة على الحكومة الروسية لإيقاف القتال في الشيشان بالمظاهرات والاعتصامات والمطالبة الحقوقية، مما أسهم في إضعاف الموقف الروسي من القتال في الشيشان.
ويعتبر "القائد خطاب" من أقدم من قام بتوثيق العمليات العسكرية بالفيديو وإخراجها في سلسلة متصلة مع أداء إعلامي متميز، حيث كان له قصب السبق في هذا الميدان.
وقد نقل عنه أنه قال " إن الله أمرنا بمجاهدة الكافرين وقتالهم بمثل ما يقاتلوننا به. وهاهم يقاتلوننا بالدعاية والإعلام لذلك فيجب علينا أيضا مقاتلتهم بإعلامنا "

كما أن موقع (صوت القوقاز) المتحدث باسم المجاهدين في الشيشان كان من أوائل المواقع الجهادية على الشبكة، وقد رفع من مستوى الأداء الإعلامي للتيارات الجهادية، وعرف بقضيتهم بشكل لم يسبق له نظير، وتعتبر كل المواقع الجهادية الحالية سائرة في إثر موقع القوقاز.

كما يعتبر الأداء الإعلامي في القضية الشيشانية باكورة العمل الإعلامي الجهادي في العالم كله.

ويتميز "القائد خطاب"رحمه الله بالأداء الإعلامي المتزن، وله تصريحات متعددة توضح ذلك وتكشف عنه، فقد كان يأخذ في الاعتبار المصالح والمفاسد، ويراعي تأثير كلامه على القضية الشيشانية، ولما سئل عن علاقته بابن لادن أجاب بأنه رآه يوم أن كان في أفغانستان وأن ذلك كان منذ ثمان سنوات، وأنه لم يره ولم يتصل به بعد ذلك.

رحم الله شهيد أرض الشيشان "القائد خطاب"، الذي أبلى بلاء حسنا وكبيراً في قتال أعداء الله في مواطن عديدة،
ويشاء الله عز وجل أن يكون موته على فراشه مسموماً... رحم الله خطاب وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة، وجمعنا به في مستقر رحمته.

نسأل الله تعالى أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويهدينا للسداد في القول والعمل.

وصلى الله على نبينا محمد

تأملات في وثيقة ترشيد العمل الجهادي


(أرجو من القارئ الكريم إتمام قراءة المقال قبل الحكم عليه)

في شهر نوفمبر من عام 2007 م نشرت العديد من الصحف ووسائل الإعلام ما يسمى بـ(وثيقة ترشيد العمل الجهادي)، وقد قرأت الوثيقة، وتأملتها وأعدت النظر فيها أكثر من مرة منذ صدورها، ووجدت الناس تجاهها على طرفي نقيض، فمنهم من يقبل الوثيقة على علاتها لكونها صادرة عن منظر معروف وموثوق به وذا سابقة شهيرة في التنظير للعمل الجهادي، ومنهم من يردها جملة وتفصيلاً بحجة أنها انتكاسة عن طريق الجهاد وتنكب له، وأن ظروف كاتبها وكونه في السجن دفعته لكتابتها دون تجرد.

ورأيت أن (كلا طرفي قصد الأمور ذميمٌ) ، وأن العدل هو في التوسط والاعتدال، فالوثيقة في نهاية المطاف عمل بشري لا يخلو من الخطأ، ومبدأ (المراجعة) أو (المحاسبة) للنفس والعمل مبدأ شرعي مرغب فيه.

لهذا جاء هذا المقال لإبداء بعض الملاحظات على وثيقة ( د. فضل) الموسومة بـ( ترشيد العمل الجهادي) وردود الفعل التي أعقبتها ومن أهمها (كتاب التبرئة) للدكتور أيمن الظواهري.

وسوف يكون الحديث وفق النقاط التالية :
أ – ضرورة الترشيد .
ب – مضمون الوثيقة.
ج – ملاحظات عامة على الوثيقة .
د – مقتطفات مختارة من الوثيقة.
هـ – ردود الفعل.
و - توصيات حول ترشيد العمل الجهادي .
فإلى المقال ...

أ – ضرورة الترشيد :
إن الترشيد والمراجعة والنقد الذاتي أمور في غاية الأهمية، وذلك بغية التأكد من سلامة المسيرة وصحة التوجه، وهو واجب على كل التيارات الإسلامية أياً كانت مسمياتها، ومجالات عملها، كما أنها – أي المراجعة – متأكدة في الجانب الجهادي بشكل أكبر، لما يسببه الانحراف في هذا المجال من خطورة وآثار سلبية مدمرة .

وخصوصاً مع المعايشة اللصيقة لما حصل في الواقع الجهادي من أخطاء وتجاوزات في الوقت الراهن مما أضر بمفهوم الجهاد وشوه صورته، إضافة إلى ما ترتب على ذلك من خسائر مادية وبشرية، فكانت الحاجة ماسة إلى ترشيد العمل الجهادي، وتمييز ما يصح نسبته للجهاد الشرعي وبين ماهو دخيل عليه، حتى وإن فعل باسمه وتحت مظلته، ومن قبل بعض أبنائه المخلصين.

ب – مضمون الوثيقة :
* اسم الوثيقة : ( وثيقة ترشيد الجهاد في مصر والعالم )
* الكاتب : سيد إمام الشريف - يحمل اسمين حركيين في الأوساط الجهادية، هما الدكتور فضل والدكتور عبد القادر بن عبد العزيز، وهو منظر للتيارالجهادي وأستاذ أيمن الظواهري وأمير تنظيم الجهاد (المصري) في مرحلة من مراحله.
ويعتبر المنظر الرئيس للتيار الجهادي في المرحلة السابقة، ولاشك أن لمراجعاته أثر على أبناء هذا التيار مهما سعى المخالفون له للتقليل من أهميتها.
* الوثيقة : يستعرض (د.فضل) في هذه الوثيقة عدداً من الأدلة الفقهية والشرعية، و ينتهي بها إلى تحريم اللجوء إلى العنف، وأهمية عدم الخروج على الحاكم الظالم كما يستعرض في كتابه قضية ضبط العمليات الجهادية وفق المنظور الشرعي والدعوة إلى استمرار العمليات ضد القوات الأجنبية في العراق وأفغانستان .
وكان (د.فضل) قد عمل، منذ أن تسلمته مصر من اليمن عام ٢٠٠٤، على توحيد المراجعات الفقهية لقادة فصائل الجهاد داخل السجون، وبينهم نبيل نعيم وعبد العزيز الجمل وأنور عكاشة وآخرون، وبعد حواراته العميقة مع هذه القيادات بدأ في إعداد ( الوثيقة ) والتي تقع في 111 صفحة.

* يمكن تقسيم المادة التي تعرضت لها الوثيقة إلى الأقسام التالية :
1- توضيح بعض ما فهمه الناس عن (د.فضل) خطأً من خلال كتبه السابقة .
2 - الاعتذار والتراجع عن بعض الأفكار، والأساليب، والأحكام على الأشياء والأشخاص، وكأني به قد تبين له من خلال التجربة خطأ هذا الأسلوب وتلك الأفكار والأحكام ولكن بشكل غير صريح.
3 - نقد بعض الأخطاء والتجاوزات في العمل الجهادي مما كان ينكره ويفتي بخلافه سابقاً.

ج – ملاحظات عامة على الوثيقة :
· كتبت الوثيقة في أجواء تنقصها الحرية، ويشوبها الكثير من ضعف الثقة لكونها جاءت من وراء القضبان، وهذا من أسباب ضعف تأثير الوثيقة وسهولة مهاجمتها واتهام مصداقيتها.

· كتبت الوثيقة بروح غاضبة وبنفس متشنجة في الموقف من (القاعدة) و(جماعة الجهاد المصرية) مما أثر على النَفَس العام للوثيقة، وجعل القارئ يشعر بمجافاة الكاتب للإنصاف وأن ما يطرحه (د.فضل) إنما هو ردود فعل غاضبة، بروح انتقامية، تفتقد الموضوعية، مما أثر سلباً على مدى القبول لها، ولو خلت الوثيقة من هذا لكانت محل قبول عند عدد كبير من أبناء التيار الجهادي.

· كان من الأولى أن يكون لدى (د.فضل) من الشجاعة مايجعله يعترف بالأخطاء التي وقعت منه بصراحة ووضوح، ويعلن تراجعه عنها بدلا من التنصل منها تارة، واتهام الآخرين بسوء الفهم تارة أخرى، فإن الاعتراف – لو حصل- لكان أبرأ لذمته أمام الله، وأكثر قبولا عند خلقه، وهذا يشمل الأخطاء في الأحكام أو في الأفكار أو في الأسلوب، ومثاله : تجرئة الشباب غير المؤهل على التكفير وتنزيله على الأعيان .

· يظهر لي أن من أسباب الوثيقة محاولة الكاتب التخفيف عن المعتقلين والسعي في الإفراج عنهم ويظهر هذا في موضعين: أولهما : حين تحدث عن جواز الأخذ باليسر والرخصة الشرعية لرفع الحرج ودفع المشقة، وكان مما كتب هنا :( فلايجوز الإنكار على من أخذ بجواز الرخصة الشرعية خصوصا في الشدائد كما لايجوز للمسئولين في الجماعات الإسلامية أن يلزموا أتباعهم بالعزيمة إذا أرادوا الأخذ بالرخصة)، وثانيهما: في مبحث (السعي في فكاك أسرى المسلمين واجب) حيث قال: ( وفي هذا الزمان هناك من تسببوا في سجن المئات بل الآلاف من المسلمين بحماقاتهم والسجن بلاء .. فإذا قام من يسعى إلى فكاكهم الذي هو واجب عليهم أنكر عليه هؤلاء الحمقى وطلبوا منه السكوت فهل هذا إلا من الجهل بالدين ومن قسوة القلوب).

· يلحظ القارئ للوثيقة ضعفاً علمياً بيناً، فلم تخرج الوثيقة بتأصيل علمي قوي يتناسب مع حجم د.سيد إمام وكتاباته السابقة، ولعل السبب أنها كانت تهدف إلى مخاطبة قطاع كبير من الشباب الذين يهمهم الجانب الفكري في الموضوع أكثر من التأصيل الشرعي وأعتقد أنه سيكون مضطراً للرد العلمي على كتاب (التبرئة) للدكتور أيمن الظواهري وبخاصة أن الأخير أثار عدداً من التساؤلات وطلب الرد عليها.

· جاء ربط مسمى الوثيقة بـ(ترشيد العمل الجهادي في مصر) ليضفي عليها طابع من الخصوصية المناطقية، وأنها تهدف إلى تهدئة الأجواء وحل الاحتقان والتوتر الذي يقع في الساحة المصرية، ولاتخدم ترشيد الجهاد بشكل عام، ولو تناولت المسائل والنوازل الجهادية المجردة لكانت أثوى تأثيراً وأحرى بالقبول وبخاصة أن ممارسات النظام المصري في الحرب على الدعوة والعمل الإسلامي والتعامل مع اليهود لا تسمح بنجاح الدعوة إلى التهدئة .

· احتوت الوثيقة على مالا يمكن قبول تغيّر قناعة (د.فضل) به، مثل ( الاعتراف بشرعية النظام الحاكم في مصر)، ولعل من مسببات ذلك – وفق ما أراه – أن ذلك جاء على سبيل الإكراه والظرف الذي يعيشه داخل السجن، كما أنه قد يكون من أسباب ورود ذلك المثال ومايشابهه في الوثيقة : التخفيف عن بعض الموقوفين والتفريج عنهم بنوع من المداهنة أو المداراة لدرء المفسدة الكبرى بارتكاب الأدنى.

· في الوثيقة بعض التعميمات التي يشكو منها الدكتور في مؤلفاته السابقة مما قد يفهم على غير مقصوده.

· من الأخطاء الأساسية في الوثيقة أنها مبنية على فكر (د.فضل) السابق، فأصبحت تهدف إلى تبرير التناقض والاختلاف بين ماكان يقوله سابقاً ومايقوله حالياً، وكان الأولى أن تكون الوثيقة ترشيداً للعمل الجهادي القائم، من خلال دراسته في ضوء الأحكام الشرعية، ثم يمكن لـ (د.فضل) أن يبرر بعد ذلك ما كان مخالفاً لما يقوله به سابقاً.

د – مقتطفات مختارة من الوثيقة.
برغم ماسبقت الإشارة إليه من ملاحظات اتسمت بها وثيقة ترشيد العمل الجهادي، إلا أن الوثيقة احتوت على العديد من التقريرات والتنبيهات المهمة، والتي يحتاج إليها العمل الجهادي، ونسوق هنا بعض العبارات الواردة في ثناياها :

- [ الموقعون على هذه الوثيقة ... يذكرون أنفسهم وعموم المسلمين ببعض الضوابط الشرعية المتصلة بفقه الجهاد، ويعلنون التزامهم بهذه الضوابط الواردة بهذه الوثيقة، ويدعون غيرهم من المسلمين وبصفة خاصة الأجيال الناشئة من شباب الإسلام إلى الالتزام بها وألا يقعوا فيما وقع فيه من سبقهم من مخالفات شرعية عن جهل بالدين أو عن تعمد، فلا هم أقاموا الدين ولا أبقوا على الدنيا خاصة وأن الجهاد فريضة ماضية في أمة المسلمين منذ أن شرعه الله تعالى وإلى أن يقاتل آخرهم الدجال مع السيد المسيح في آخر الزمان كما أخبرنا بذلك نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي وصف الجهاد بأنه (ذروة سنام الإسلام) إذ به يحفظ الله على المسلمين دينهم ودنياهم وبه عزتهم وكرامتهم في الدنيا والآخرة، ومن هنا لزم ترشيد فهم فريضة الجهاد ]

- [ لا يجوز لغير المؤهلين شرعياً من أفراد الجماعات الجهادية تنزيل ما في بطون كتب السلف من أحكام مطلقة على واقعنا الحاضر، فالنصوص الشرعية (الكتاب والسنة) وإن كانت ثابتة لا تتغير، إلا أن فيها خيارات تناسب كل واقع وحال، وهذا لا يدركه إلا خبير بالشرع ].

- [ كتب علماء السلف كتبهم لزمان غير زماننا، كان للمسلمين فيه دار إسلام وخلافة وخليفة وتميز بين الصفوف وبين الناس بعضهم بعضا، المسلمون في دار الإسلام والكفار في دار الحرب، وفي دار الإسلام يتميز الذمي عن المسلم في المظهر، كل هذا لا وجود له الآن واختلط الناس، وهذا من الواقع المتغير المختلف الذي يوجب الاحتياط عند الاطلاع على كتب السلف وعند الحكم على الناس].

- [ لا يجوز لغير المؤهل أن يقود مثله في عدم الأهلية لخوض صدامات باسم الجهاد، فإن الاحتياط في أمور الدماء والأموال في غاية الوجوب، وقد قال تعالى «يأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا» ].

- [لقد رأيت بعض من لا يحسن الإجابة عن سؤال في فقه الصلاة أو الطهارة في حين أنه يفتى ويأمر بإهدار الدماء والأموال بالجملة. فهل يسوغ هذا في دين الإسلام؟]

- [لا تقبل قولاً أو فتوى من أحد خاصة في هذه المسائل الحرجة كالدماء والأموال إلا بحجة، والحجة هي الدليل الشرعي من كتاب الله تعالى أو سنة النبي صلى الله عليه وسلم ثم الإجماع المعتبر والقياس الصحيح].

- [التحذير من فقه التبرير، وقد كثر في هذا الزمان أن يستحسن إنسان أمرًا ما أو يرتكب حماقة ثم يبحث لها بعد ذلك عن دليل من كتاب أو سنة يبرر به حماقته ويدفع به اللوم عن نفسه، وهذا موجود في الأفراد والجماعات، ولن يعدم أحدهم أن يجـد شـبهة مـن دليـل، ولكنه فهمه وحمله على غير مراد الشارع كما قال تعالى «وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا» ]

- [ فلولا الجهاد في فلسطين لزحف اليهود منذ زمن على الدول المجاورة، ولولا الجهاد في العراق لزحفت أميركا على سورية منذ زمن ولاستعبدت شعوب المنطقة، فلا يحل لمسلم أن يطعن في فرائض الشريعة كالجهاد وإرهاب الأعداء إذ بذلك يحفظ الله على المسلمين دينهم ودنياهم، فلسطين ].

هـ – ردود الفعل
جاءت ردود الفعل على صدور (الوثيقة) قوية ومباشرة وسريعة من عدد من أصحاب الاتجاه المخالف لمحتواها، وكلهم -حسب تقديري- عاملها بالنقد الصارخ مع ضعف في الموضوعية : الظواهري - أبويحيى – أبواليزيد – هاني السباعي.
وأعتقد أن سبب ذلك خوفهم من تأثيرها على أبناء التيار الجهادي وذلك لقوة تأثير ( د. فضل) العلمي وتاريخه الجهادي المعروف.
ومن أشهر ما كتب في الرد على (الوثيقة) كتاب د. أيمن الظواهري المسمى ( التبرئة).
وهاأنذا أسوق عدداً من الوقفات على كتاب التبرئة :
· حاول الكاتب أن يبتعد عن التجريح والعبارات الخشنة ما أمكنه ذلك لكنه لم يستطع في بعض المواضع وإن كان الغالب على الرسالة محاولة الهدوء والحرص على الموضوعية في النقاش والرد.

· ركز الكاتب على الملاحظات دون أن يعترف ببعض الجوانب الإيجابية في الرسالة، والتي من بينها ماسبقت الإشارة إليه في (إيجابيات في وثيقة الترشيد).

· حاد الكاتب عن الإجابة على بعض التساؤلات المحرجة ومنها : معصية أسامة للملا محمد عمر بالعمل في الخارج ، حيث حاد إلى ذكر تخطيط أمريكا لضرب أفغانستان وإلى الموقف المشرف الذي وقفه الملا محمد عمر، وتجاهل السؤال الذي طرحه(د.فضل) بشكل جلي في الوثيقة.

· ألزم الكاتب صاحب الوثيقة بلوازم لاتلزم وفهم عبارات الوثيقة بطريقة لعل الكاتب لم يقصدها.

· يلاحظ أن الظواهري لم ينتقد (د.فضل) في ثناء الأخير على (حزب الله) وكأن صاحب التبرئة يوافقه على ذلك.

· كما أن (د. فضل) انتقد كثيراً أداء القاعدة دون أن يعترف بأن جزءاً من تلك الأخطاء والانحرافات بسبب ماكتبه هو، فإن د. أيمن الظواهري كذلك قد وقع فيما وقع فيه (د.فضل) حين لم يعترف بتجاوزات القاعدة وأخطائها التي شوهت صورة الجهاد وأضرت ببعض المواقع الساخنة وأعطت الذريعة للأعداء للتدخل في البلاد الإسلامية، وهذا التنصل عن الاعتراف مما يضعف المصداقية في طرحه، مع أن الحديث عن الأضرار التي تترتب على بعض أعمال القاعدة ليست مما تفرد به (د. فضل) بل لقد شاركه كثيرون ممن لا يشك فيهم صاحب التبرئة مثل أبي مصعب السوري الذي كتب عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر.

· يلاحظ القارئ لكتاب التبرئة أن د. الظواهري قد اعتبر هذه الوثيقة - لكونها تنتقد القاعدة وتصرفاتها – اعتبرها تصب في خدمة المشروع الصليبي، وكان من ضمن ماقاله الظواهري: (فهذه التراجعات لم تكتب في ظروف القهر والسجن والخوف فقط، ولكنها كتبت بإشراف، وتوجيه، وتدبير وتمويل وإمكانات الحملة الصليبية اليهودية)!! وهو بذلك يغلق الباب أمام جميع الناصحين، ويعتبر أي نقد موجه للقاعدة وقوفاً مع الصليبيين في خندق واحد!.

· تأرجح الكاتب في نقده لصاحب الوثيقة فحيناً يجعل المسبب لكتابتها (الإكراه) وحيناً يتهم الكاتب في نيته، وأنه كتبها طمعاً في الدنيا، أو رغبة في الخروج من السجن.

و - وقفات حول ترشيد العمل الجهادي :
(1) واجب أهل العلم :
إن على أهل العلم الربانيين أن يتدخلوا لترشيد العمل الجهادي وإخراجه من دائرة التهارج بين التيارات المتباينة مابين تيار محبط يدعو للاستكانة والخنوع والاستسلام للعدو، وتيار متهور يعلن الحرب على كل من حوله من غير بصيرة بالهدي النبوي وظروف الواقع التي يعيشها والآثار السلبية المترتبة على كلا القولين فادحة تتجرعها الأمة في عدد من ميادينها وساحات العمل فيها.
وبخاصة أن الانحراف في مجال الجهاد له آثاره المتعدية والفتاكة مابين تشويه صورة الجهاد وإعطاء العدو الفرصة للتخذيل عنه وإساءة فهمه من قبل المخاطبين به من أبناء الأمة الإسلامية إلى تسويغ التدخل الأجنبي في البلاد الإسلامية وإيجاد الذريعة لذلك .
ولذا يجب التصدي لهذا الانحراف بكل قوة حتى لو أدى إلى خسارة بعض الفئات المتهورة وتحذير الأمة من مسلكها وأنها لا تمثل المشروع الجهادي .

(2) التحفظ غير المشروع :
قد يتحفظ بعض المخلصين عن نقد التيار الجهادي، ويعد ذلك صورة من إعانة الأعداء و تخذيل المجاهدين، وهذا في نظري نقص في التصور وبعد عن منهج النبي صلى الله عليه وسلم في الترشيد، فإن الانحراف الموجود لدى بعض أبناء التيار الجهادية ( مثل العمل في البلاد الإسلامية واستهداف المخالفين من أهل السنة) أضر على الجهاد وعلى أهل السنة مما يقوم به الأعداء الصرحاء.
ومع تقديري لورع هؤلاء المخلصين المتحفظين على نقد التيار الجهادي ونصحهم ورغبتهم في الخير إلا أن منهج القرآن والسنة أولى بالاتباع، والحق أحب إلينا من كل حبيب.
إن السكوت عن هذا الانحراف مع كثرة التجاوزات هو في الحقيقة ضرب من الخيانة للعمل الجهادي ومحاباة للناس على حساب الشرع ، وتضييع لمصلحة الأمة وهو سبب للفشل والهزيمة.
وإن الداعين إلى ترشيد العمل الجهادي هم أنصار الجهاد الحقيقيين وهم الأكثر غيرة على واقعه ومستقبله، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي يرويه أنس رضي الله عنه "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً"، فقال: رجل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنصره إذ كان مظلوماً، أفرأيت إذا كان ظالماً كيف أنصره؟! قال: "تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره" أخرجه البخاري.
ولقد كان من منهج القرآن والسنة : نقد المخطئين علانية والتبرؤ من عملهم، ولم يجامل القرآن الكريم خيار هذه الأمة من الصحابة، بل لامهم وعاب عليهم فعلهم عندما وقع منهم الخطأ في معركة أحد، إذ يقول تعالى (حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة)، فإذا كان القرآن لم يجامل خيار هذه الأمة، فكيف لنا أن نسكت عن أخطاء من دونهم؟.

(3) عدم الترشيد سبب للفشل والهزيمة:
إذا كانت الهزيمة في معركة أحد تحت راية النبي صلى الله عليه وسلم بسبب معصية الرماة (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنىّ هذا؟ قل: هو من عند أنفسكم)، وإذا كان الصحابة الكرام تحت راية النبي صلى الله عليه وسلم قد عوقبوا بالهزيمة والقتل والجراح في (أحد) بسبب معصية بعضهم للرسول صلى الله عليه وسلم، فكيف سيكون أثر هذه التجاوزات الكبيرة التي تقع من بعض المجاهدين اليوم؟
وهل يمكن أن يتنزل النصر والحالة هذه؟ إن الله تعالى قد وعد المؤمنين بالنصر، ولكن ذلك مرهون بأن يحقق المؤمنون في أنفسهم شرط هذا الوعد الرباني ، وإلا فسوف تجري عليهم سنن الله تعالى التي لاتحابي أحداً، مع كثرة عدوهم وكثرة عدته، وقلتهم وقلة عتادهم .

(4) التجاوزات المنهجية:
إن ما يقع الآن من تجاوزات وانحرافات من قبل المنتسبين للتيار الجهادي ليست من الأخطاء العارضة التي تقع دون قصد، ولكنه بات منهجاً مطرداً له سمات ومعالم تميزه عن غيره، ومن تلك السمات: انتهاك حرمة المخالف، واستباحة دمه، والتساهل في شأن الدماء بعامة، والإسراف في القتل تحت ذريعة التترس، والغلو في الحكم على الآخرين من المجاهدين والعلماء والدعاة، والتهاون في التكفير، وتنزيل الأحكام على الأعيان من غير مراعاة لضوابط أهل العلم في ذلك، وتقع هذه الأخطاء بشكل منتظم، وتتكرر دون إنكار أو محاسبة.

وختاماً ..

أرجو أن أكون قد أوصلت للقارئ الكريم عموماً، ولأبناء التيار الجهادي خصوصاً رسالة مهمة، وهي ضرورة ترشيد العمل الجهادي، وتصويبه، وتقويمه، ومعالجة الأخطاء و الانحرافات حين وقوعها، بالعودة إلى الكتاب والسنة، والتأمل في السيرة النبوية الشريفة، وسير السلف الصالح، طمعاً في تحقيق المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، والسير على منهاجه، وتحقيق النصر لهذا الدين، والرفعة لهذه الأمة المباركة.
وأن من الواجب علينا قبول الحق ممن جاء به، ولا يصدّ عنه كونه صادراً ممن عرف عنه القول بخلافه سابقاً، فإنه لا يبطل الحق سبق المخالفة له، ولا يبطل الحق أن ينطق به المرء في ظروف وأحوال غير مناسبة، فالحق أحق أن يتبع أياً كان قائله، فهو ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى بها .

نسأل الله تعالى أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويهدينا للسداد في القول والعمل.
وصلى الله على نبينا محمد

بين يدي المدونة

* نؤمن بمشروعية الجهاد، وضرورته، وحاجة الأمة إليه في هذا العصر وفي كل عصر، وأنه سبب لحفظ بيضتها وحماية مقدساتها. * نرى أن من عوامل نجاح الجهاد وتحقيقه لأهدافه : السعي في ترشيده وتسديد القائمين عليه، وأن النقد الهادف لصالح الجهاد وليس ضده. * نهدف إلى حماية المشروع الجهادي من التشويه، والذب عن أعراض القائمين عليه.