القاعدة.. انقلاب أبيض

(أرجو من القارئ الكريم إتمام قراءة المقال قبل الحكم عليه)


بدأ الشيخ أسامة بن لادن بتكوين "القاعدة" كتنظيم عسكري عالمي، يقوم على فكرة موجزة تتلخص في أن قدرات المجاهدين محدودة، وإمكاناتهم متواضعة، فعليهم أن يصرفوها في أولى الأهداف وأهمها، وتحديداً : التركيز على العدو الأوّل للمسلمين (أمريكا) بدلاً من تشتيت الطاقات في أماكن متعددة، وحين تبلورت هذه الفكرة وتحدد الهدف بشكل واضح لدى الشيخ أسامة، بدأ بالعمل على تحقيقه بكل الإمكانات المتاحة له، وذلك من خلال محاور متعددة، منها :
1- التوعية الإعلامية بخطر الأمريكان وعدائهم للمسلمين، وإعانتهم لليهود في فلسطين..
2- الدعوة إلى الحرب الاقتصادية، ومقاطعة البضائع الأمريكية.
3- العمل على إقناع الجماعات الجهادية، والحركات الإسلامية في العالم الإسلامي بتبني هذه الفكرة، وتوحيد الجهود لتحقيقها.
4- تحريض شباب الأمة، وإعدادهم لتحقيق هذا الهدف من خلال البيانات المختلفة، ومعسكرات التدريب وتكوين مجموعات العمل في طول العالم وعرضه.
5- ضرب الأمريكان في عقر دارهم، وتعقبهم في كل مكان من العالم.
ويعتبر الشيخ أسامة بحق هو صاحب فكرة استهداف الأمريكان، وجمع الجهود لذلك والتي لخصها في شعار (ضرب رأس الأفعى)
وقد عانى الكثير لتحقيق هذه المحاور السابقة و كان من أبرز الصعوبات التي واجهها: إقناع الجماعات الجهادية والحركات الإسلامية بتبني هذه الفكرة وترك المشاريع المحلية التي عبر عنها بـ(ذيل الأفعى)، وتأتي مرتبة متأخرة من حيث الأولويات.
وكان من أبعد الجماعات الجهادية عن تبني هذا المشروع (جماعة الجهاد المصرية)، والسبب أن الجماعة من أصلها قامت على فكرة محلية تتلخص في إسقاط النظام المصري وإقامة دولة إسلامية على أنقاضه، ولذا فإن فكرة الشيخ أسامة تتناقض مع الأصل الذي قامت عليه جماعة الجهاد المصرية.
وكانت جماعة الجهاد المصرية تتخذ من أفغانستان محضناً لاستقطاب الشباب وإعدادهم وتدريبهم ثم بعثهم إلى مصر، ولم يكونوا مقتنعين بالقتال في أفغانستان، بخلاف (ابن لادن) الذي توسع في إنشاء المعسكرات وعمل على استقبال أعداد كبيرة من الشباب للتدريب والتأهيل للعمل الجهادي والبيعة على الجهاد في سبيل الله في كافة الأرض وليس في أفغانستان فحسب، وكانت أرض أفغانستان لأبناء القاعدة بمثابة المستشفيات الجامعية لطلاب الطب، إذ كانت موضعاً للتدريب العملي والتطبيق الميداني.
ومن خلال اللقاءات بين (الشيخ أسامة بن لادن) و(الدكتور أيمن الظواهري -جماعة الجهاد المصرية) كان يبرز على السطح دائماً التباين في الرؤية للعمل الجهادي بين المحلي والعالمي.
وكان المصريون في بيشاور وأفغانستان من (جماعة الجهاد المصرية) و(الجماعة الإسلامية) يدعون أبناء الخليج واليمن للعمل في بلادهم ضد الأنظمة، ويحاولون إقناعهم بأن هذا العمل أولى من القتال مع الأفغان، وأن أرض الخليج أولى بإقامة الجهاد فيها من أجل إسقاط الأنظمة وإقامة الدولة الإسلامية هناك، خلافاً لمشروع (ابن لادن) الذي استنفر هؤلاء الشباب واستقطبهم لمشروعه العالمي في ضرب رأس الأفعى.
واستمر الخلاف حول هذه المسألة بين (الشيخ أسامة بن لادن) و(الدكتور أيمن الظواهري) حتى بعد الانتــقال إلى السودان.
وكان أول تقارب حول الفكرة العالمية بينهما، حين وقع (الظواهري) على وثيقة الجبهة العالمية 1998م نيابة عن جماعة الجهاد المصرية، مما جعل مجلس شورى جماعة الجهاد يعاتبه على هذا التصرف ويرفض الانضمام إلى هذه الجبهة لأنها خلاف الأصل الذي قامت عليه الجماعة.
ومنذ ذلك الحين والسؤال الذي أخذ يتردد على ألسنة المراقبين هو : هل استطاع (أسامة بن لادن) أن يغيّر من فكر (الظواهري) حول هذه المسألة الرئيسة، مما جعله ينتقل من المشروع المحلي إلى المشروع العالمي؟ أم أن هنالك أمر آخر ؟.
وبرغم المعوقات التي واجهها (الظواهري) في توجهه الجديد من قبل رفقاء دربه في (جماعة الجهاد) إلا أنه بقي مصراً على هذا التوجه الذي كلّله ببيعته لـ(ابن لادن) في منتصف عام 2001م لينضم إلى تنظيم القاعدة.
فهل كان تحول (الظواهري) عن قناعة؟ أم أنه نتيجة للظروف المحيطة بالعمل و التي جعلت الهدف الذي قامت عليه الجماعة يبتعد شيئاً فشيئاً مع سلسلة النجاحات التي حققها النظام المصري في ضرب الحركة، والتي كان من أهمها :
قيام ألبانيا بتسليم عدد من قيادات الجهاد المصري إلى مصر، والتي تسببت في اعتقال عدد كبير من المنتمين لجماعة الجهاد فيما سمي بقضية (العائدون من ألبانيا).
ضربة (طلائع الفتح) من الشباب الذين عادوا إلى مصر لإحياء العمل في مواجهة النظام حيث اعتقلوا جميعاً وكشفت أوراقهم.
الاختراق الاستخباراتي الذي حققه النظام المصري للجماعة في السودان عن طريق ابن أحد أعضاء مجلس شورى الجماعة.
تضييق الخناق على إقامة وتحرك قيادات الجماعة، حتى في السودان حيث طلب منهم مغادرة البلاد.
الخلاف مع (د. فضل - سيد إمام) أمير الجماعة السابق ومنظرها الفكري والشرعي، والذي فارق الجماعة وأصبح يكتب ضدها.
ضعف التمويل للعمل مما جعله يراوح مكانه ويعجز عن القيام بخططه المرسومة.
هذه الأسباب وغيرها قد تكون أدت إلى إحباط (الظواهري) وتخليه مرحلياً عن فكرته الرئيسة باستهداف النظام المصري.
ويبقى التساؤل هل تغيّر (الظواهري) بالفعل ؟
لم يكن بإمكان المهتمين في هذه القضية الجزم بإجابة واضحة، إلا أن الزمن كفيل بتوضيح الحقيقة.
وفي رأيي إن الحقيقة بدأت تظهر ملامحها في هذه الفترة التي أصبح فيها (الظواهري) الرجل الأول فعلياً في تنظيم القاعدة، كما أصبح قدماء (جماعة الجهاد المصرية) يسيطرون على قيادة (تنظيم القاعدة) والتي تكللت بتعيين (الشيخ سعيد - المحاسب) رئيساً للتنظيم في أفغانستان، إضافة إلى تعيين (أبي أيوب المصري) قائداً فعلياً للقاعدة في (الدولة الإسلامية في العراق)، و(محمد مكاوي - سيف العدل) رئيساً للمجلس العسكري للعمل في الخارج، والموجود حالياً في إيران.
والذي يظهر لي أن (تنظيم القاعدة) بدأ يتجه في خط آخر منذ تعيين (القيادات الجديدة)، هذا الخط الذي ينقض أصل الفكرة التي قام عليها (تنظيم القاعدة) يوم أن بدأه (الشيخ أسامة بن لادن)، ولهذا بدأ التحول من ضرب رأس الأفعى إلى ضرب ذيلها، واستهداف الأنظمة بدلاً من أمريكا، وهو ما يمكن اعتباره (انقلاباً أبيضاً) داخل القاعدة
ويمكن إجمال أبرز معالم التحول الجديد الذي أسميته بـ (الانقلاب الأبيض) فيما يلي :
1- في الجانب الإعلامي : حيث وقع تحول كبير في الخطاب الإعلامي إذ بدأ يتجه بشكل حاد ومستفيض للحديث عن الأنظمة، والدعوة إلى إسقاطها، وبشكل متكرر يكاد يطغى على الحديث عن أمريكا وبريطانيا اللتين تمثلان رأس الأفعى.
2- في الجانب العملي : حيث نفذ التنظيم عدداً من العمليات في البلاد العربية والإسلامية، وهي عمليات تصب في المشروع المحلي على حساب المشروع العالمي، ومن ذلك العمليات في السعودية والكويت والمغرب والجزائر مما لا يمكن تصنيفه بأي حال أنه ضرب لرأس الأفعى.
3- توجه (د. أيمن الظواهري) في خطابه لاستهداف "حركة الإخوان المسلمين" والحملة عليهم، حتى أن المجاهدين الذين يتخندقون في مواجهة اليهود من المحسوبين على "الإخوان" كـ" حركة حماس"، لم يسلموا من نقد الدكتور وهجومه الصارخ عليهم، وكأنها تصفية حسابات قديمة، ولئن كانت تليق بمسؤول في جماعة إقليمية في مصر أو غيرها، فإنها لا تليق بالرجل الأول أو الثاني في جماعة عالمية.
4- اللغة الهادئة بل والمؤيدة عند الحديث عن "حزب الله" أو "إيران"، هذه العلاقة معروفة سابقاً عن جماعة الجهاد المصرية من أيام الخميني وإلى اليوم، ويعتبر إقحام (تنظيم القاعدة) العالمي في هذا الاتجاه ذا أبعاد خطيرة على سمعة التنظيم وولاء أهل السنة له وثقتهم فيه، كما أن له أثراً على مستقبل العمل مما قد يعيد دور ابن العلقمي حين تغدر إيران وتبيع (القاعدة) لأمريكا، في صفقة تحقق لها مرحلة من مشروعها الصفوي الفارسي في العالم الإسلامي.
هذه بعض المعالم التي تؤكّد أن (تنظيم القاعدة) يشهد تحولاً خطيراً في ظل قيادة (د. أيمن الظواهري) وقدماء (حركة الجهاد المصرية) لها، ولا أستطيع أن أجزم بأن (الظواهري) قد دخل مع (الشيخ أسامة بن لادن) وفي ذهنه البقاء على مشروعه المحلي، مترقباً الفرصة لتحقيقه على يد (القاعدة)، وإن كان ذلك احتمالا وارداً ؛ إذ قد يكون التحول تم بشكل تلقائي غير مرتب بشكل مسبق، بسبب طبيعة (الظواهري) وتكوينه الفكري السابق مما جعله يتحول إلى الأهداف المحلية.
ويحتمل أن يكون (الظواهري) قد رأى أن المشروع العالمي أصبح متعثراً ومتعذراً بسبب الاحتياطات الأمنية التي اتخذتها أمريكا ودول أوروبا، وأن الدول العربية والإسلامية باتت أسهل للاستهداف.
ويبقى التساؤل الأخير : ما هو مستقبل القاعدة في ظل التحول الجديد ؟
وجواباً على ذلك أقول : إن (تنظيم القاعدة) بهذا التحول الجديد فقد الأصل الذي قام عليه، والفكرة التي جمعت الأمة، وأكسبته التعاطف من عموم المسلمين، بفكرته البسيطة الواضحة المقبولة من الناحية الشرعية والسياسية الواقعية.
ذلك أن أمريكا استفزت الناس وقتلت وأسرت ودمرت في بلاد المسلمين، وملئت قلوب المسلمين - برهم وفاجرهم- حنقاً عليها، كما أنها تمارس الاحتلال العسكري المباشر لأفغانستان والعراق، وتقدم المساعدة الكاملة لليهود في فلسطين، وتعتقل المئات من المسلمين، مما جعل هذه الفكرة وهي (ضرب رأس الأفعى) محل إجماع بين كثير من المسلمين، مما يجعل من الصعب على أولياء أمريكا الدفاع عنها، وكل من قام بذلك من المسلمين وغيرهم سقط من أعينهم وانضم إلى عدوهم المجمع على عداوته.
وبفقدان (تنظيم القاعدة) لهذه المكتسبات واقتحامه لمسائل يختلف الناس حولها باستهداف الأنظمة والعمل في البلاد الإسلامية فإنه – برأيي – مؤدِ في النهاية إلى انحسار مد (تنظيم القاعدة)، وفقدانه الكثير من أنصاره والمتعاطفين معه، وبخاصة في المناطق خارج الهدف الأصلي، فجهاد المحتل في أفغانستان والعراق وفلسطين والشيشان يحظى بدعم المسلمين وتعاطفهم، لكنه لا يحظى بذلك حين يكون العمل في مصر والأردن والسعودية وغيرها.
ومهما بذل (الظواهري) من جهود إعلامية وخطب وبيانات فلن يتقدم العمل خطوة إلى الأمام بل سيعود إلى المربع الأول : جماعة الجهاد المصرية.
ولينظر (الظواهري) إلى المؤيدين لـ(جماعة الجهاد) بعد السلسلة الماضية من الإخفاقات ومدى العزوف عن أطروحاته، وإذا كان هذا الحال في مصر التي هي معقل التنظيم – صاحب الفكرة – التي تربى عدد من شبابها على أدبياته، فلن تكون الحال أحسن في غيرها من المناطق وبخاصة دول الخليج التي تزخر بالعلماء الربانيين الذي لازالوا محل ثقة الشباب، وقد أبانوا عن موقفهم من المشروع المحلي بشكل واضح جداً، وعبروا عنه بشكل علني.
وقد خاضت تلك البلاد تجربة ثبت فشلها برغم أنها ترفع شعار استهداف المصالح الأمريكية وإخراج المشركين من جزيرة العرب، فكيف يتوقع أن تحقق نجاحاً حين يكون المشروع استهداف الأنظمة الذي يطرحه (الظواهري) اليوم.
ولست هنا بصدد الحديث عن مشروعية هذا العمل من عدمه، فلعل ذلك يكون موضوع مقال قادم بإذن الله، لكني هنا أتحدث عن مدى واقعية المشروع وإمكانية نجاحه.
نسأل الله تعالى أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويهدينا للسداد في القول والعمل.

وصلى الله على نبينا محمد

تم تحريره في 5 شعبان 1428هـ

بين يدي المدونة

* نؤمن بمشروعية الجهاد، وضرورته، وحاجة الأمة إليه في هذا العصر وفي كل عصر، وأنه سبب لحفظ بيضتها وحماية مقدساتها. * نرى أن من عوامل نجاح الجهاد وتحقيقه لأهدافه : السعي في ترشيده وتسديد القائمين عليه، وأن النقد الهادف لصالح الجهاد وليس ضده. * نهدف إلى حماية المشروع الجهادي من التشويه، والذب عن أعراض القائمين عليه.